يواصل النظام السوري تصعيده العسكري في محافظة إدلب شمال غربي سورية، الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة و"هيئة تحرير الشام" (جهة النصرة سابقاً)، وهو تصعيد غير مسبوق منذ أواخر العام الماضي، في ما تبدو محاولة منه لاستنزاف المنطقة وتهجيرها ما استطاع من أهلها، من خلال القصف المستمر على مراكز المدن في ريف إدلب، مثل معرة النعمان وخان شيخون، وتفجير مفخخات داخل مدينة إدلب، كما حصل يوم الإثنين، لخلق أجواء تساعد على اجتياحها من خلال عمل عسكري واسع النطاق يبدو أنه ينتظر الموافقة الروسية، التي من الواضح أنها لن تأتي في المدى المنظور، بسبب حرص موسكو على استمرار العلاقة مع أنقرة، الرافضة حتى الساعة لأي عملية عسكرية ضد إدلب بحجة "مكافحة الإرهاب". وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقّف التهديدات الروسية "بضرورة القضاء على الإرهابيين في إدلب"، في ضغط متزايد على تركيا.
جاء ذلك بعد يوم واحد من وقوع تفجيرين في مدينة إدلب الإثنين، أدّيا إلى سقوط 16 قتيلاً و75 جريحاً على الأقل بين المدنيين. وفيما لم تُعرف الجهة التي تقف وراء التفجير في المدينة التي تخضع لسيطرة تنظيم "هيئة تحرير الشام"، يذهب محللون إلى تأكيد وقوف النظام خلفهما لخلق انطباع بأن الفوضى سيّدة الموقف وأنه الوحيد القادر على إعادة الاستقرار إلى المنطقة التي تضم ملايين المدنيين ويحاول الأتراك تجنيبها صراعاً عسكرياً سيكون من الصعب محاصرة تبعاته السلبية.
ومن الواضح أن النظام هو المستفيد من هذين الانفجارين اللذين يحملان بصماته من حيث التوقيت وطريقة التنفيذ، إذ جاءا في الوقت الذي يتوعد فيه النظام شمال غربي سورية بعمل عسكري واسع بهدف إخضاعه. كما أن النظام على مدى سنوات الحرب السورية كان يعمد إلى تفجير أولي يعقبه اجتماع المدنيين لإنقاذ المصابين، ثم ينفذ تفجيراً آخر لقتل أكبر عدد ممكن، متّبعاً أسلوب الصدمة والترويع. ويعتمد النظام في تنفيذ التفجيرات على موالين له في المحافظة أو يعمد إلى إرسال سيارات مفخخة من مناطق سيطرته إلى شمال غربي البلاد عبر المعابر. في المقابل، زعمت وسائل إعلام مرتبطة بالنظام أن قائد "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني أصيب بجروح خلال التفجير المزدوج، مدعية أن التفجيرين استهدفا موكبه، ما أدى إلى مقتل اثنين من مرافقيه.
ولم تهدأ نبرة التهديد من قبل النظام لشمال غربي سورية منذ أشهر، على الرغم من أن المنطقة التي تقع محافظة إدلب في قلبها لا تزال محكومة باتفاق سوتشي، الموقّع في 17 سبتمبر/ أيلول الماضي، بين الطرفين التركي والروسي، وتم بموجبه إنشاء منطقة آمنة في محيط إدلب بين مناطق النظام والمعارضة، بحدود تراوح بين 15 و20 كيلومتراً، خالية من السلاح الثقيل.
ولا يخفي النظام استعداداته العسكرية لتجاوز هذا الاتفاق والانقضاض أولاً على المنطقة منزوعة السلاح، ولكن من الواضح أنه لم يأخذ ضوءاً أخضر من الجانب الروسي، على الرغم من أن الأخير ترك الباب موارباً أمام احتمالية شن هجوم على محافظة إدلب، إذ جدد المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف، التشديد أمس على "ضرورة القضاء على الإرهابيين في إدلب وفي كل المناطق السورية". وفي كلمة له خلال "منتدى فالداي" حول الشرق الأوسط، في موسكو، قال بوغدانوف إن "هناك بعض المناطق في محيط إدلب لا تزال تتعرض لهجمات من الإرهابيين، ولا بد من تحرير كل هذه المناطق، ونحن مستعدون للتعاون مع جميع الدول الإقليمية والولايات المتحدة في سبيل القضاء على الإرهابيين بشكل تام، وهذا سيساعد على إنهاء وجود الإرهاب في سورية". وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد قال قبل أيام إنه "لا يمكن الصبر إلى ما لا نهاية على وجود الإرهابيين في إدلب"، وفق تعبيره، لافتاً إلى أن "تحديد كيفية تحرير إدلب منهم مسؤولية العسكريين".
وتحوّل مصير إدلب إلى عقدة يجد الأتراك والروس صعوبة في حلها، ولكن الطرفين حتى اللحظة يسعيان إلى المحافظة على اتفاق سوتشي وتجنّب مواجهة يبدو أن موسكو تُدرك صعوبة حسمها لصالح النظام، إذ يضم شمال غرب سورية أغلب مقاتلي المعارضة السورية الذين تُقدّر مصادر مطلعة عددهم بنحو 80 ألف مقاتل تمرسوا بقتال قوات النظام والمليشيات الإيرانية، فضلاً عن مقاتلي "هيئة تحرير الشام" المقدر عددهم بعدة آلاف.
وعلى اعتبار أنه "لا إدلب بعد إدلب"، وفق تعبير قيادي في الجيش السوري الحر تحدث إليه "العربي الجديد"، فإن "الروس يحسبون ألف حساب لأي معركة في منطقة تضم نحو 4 ملايين مدني"، بحسب القيادي، الذي يضيف: "لا خيار أمامنا إلا الصمود في حال فُرضت علينا المعركة من قبل النظام وحلفائه".
وتعليقاً على التطورات، استبعد المحلل العسكري العميد أحمد رحال، أن يكون تنظيم "جند الأقصى" وراء تفجيري إدلب رداً على اعتقال الهيئة لبعض عناصره، كما ذكرت مصادر في محافظة إدلب، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد": "لو كان تنظيم جند الأقصى وراء التفجيرين لكان استخدم انتحاريين يفجرون أنفسهم عادة في هدف ثمين". ورجّح رحال أن يكون النظام وراء التفجيرين عبر خلايا نائمة تابعة له، مضيفاً: "التفجيران يخدمان مصلحة بشار الأسد، فمن مصلحته توجيه رسائل إلى قوى إقليمية ودولية مفادها ألا استقرار في إدلب ولا أمن، وأن الفوضى سيدة الموقف في المنطقة، في سياق محاولاته استعادة السيطرة على محافظة إدلب ومحيطها".
إلى ذلك، طالب الائتلاف الوطني المعارض، أمس الثلاثاء، العالم "بإدانة شديدة لتفجير إدلب الإرهابي والرد عليه عبر دعم الحل السياسي"، مشيراً في بيان إلى "أن هناك مسعى لإعادة مشاهد الموت والإجرام والقتل إلى الواجهة"، مضيفاً أنها "عملية مدروسة ومخطط لها بدم بارد". ومضى بالقول: "تؤكد هذه الجريمة أن المعركة مع نظام الأسد والإرهاب معركة واحدة، ومعقّدة، وأنها لا يمكن أن تنتهي من دون اقتلاع نظام الجريمة والتنظيمات الإرهابية من جذورهما وتجفيف منابعهما والقضاء على رعاتهما، ومنعهما من اغتنام أي فرصة لالتقاط الأنفاس أو إعادة مد الجذور".