جنوب السودان أمام خطر العودة إلى مربع الحرب

15 يوليو 2016
آلاف المدنيين شُردوا بسبب الاشتباكات (اسحاق كسماني/فرانس برس)
+ الخط -
بين يوليو/تموز 2011 تاريخ إعلان انفصال جنوب السودان عن السودان وبين يوليو/تموز 2016 موعد اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين مناصري الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار، خمس سنوات، لم يتمكن فيها قياديو جنوب السودان من تطويق خلافاتهم على السلطة حتى باتت الدولة على حافة العودة للحرب الأهلية، بعد توالي الهزات التي تضرب اتفاقية السلام الشامل التي وقّعها الأفرقاء الجنوبيون في أغسطس/آب الماضي تحت ضغوط دولية وأفريقية.
ويبدو وقف إطلاق النار المعلن بعد أيام من المواجهات التي شهدتها جوبا وأسفرت عن سقوط آلاف القتلى والجرحى ونزوح آلاف آخرين، هشاً للغاية، على الرغم من إعلان طرفي النزاع الالتزام به، لكن الخروق التي طاولته، إضافة إلى مسارعة الدول الإقليمية والعالمية لسحب رعاياها من جوبا، عوامل تُنذر بقرب العودة للحرب.
ويرى مراقبون أن التطورات في جنوب السودان، أكدت فشل الأفرقاء الجنوبيين في تنفيذ اتفاقية السلام، وأن إعلان انهيارها رسمياً بات وشيكاً، مرجحين ألا يعود مشار إلى جوبا من مخبئه، ومتوقعين أن تعلن سلطات جوبا عن خطوات تصعيدية بشكل أحادي خلال الفترة المقبلة. ويعتبر المراقبون أنفسهم إعلان وقف إطلاق النار مجرد تكيتك سياسي سرعان ما سينهار، لا سيما أن انتهاكات عدة طاولته في اليوم الأول من إعلانه.
وتكشف مصادر لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة (جناح سلفاكير) تستعد لعقد اجتماع طارئ في جوبا، مرجحة أن يُعلَن خلاله إقالة الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة ببرنامج جديد وتحميل مشار مسؤولية خرق اتفاقية السلام. وتشير المصادر إلى أن مشار، الذي خرج من جنوبا إلى منطقة أخرى لم يعلن عنها، لن يُمثَّل في الحكومة الجديدة، كما ستُستبعد عنها مجموعة المعتقلين العشرة، باستثناء شخصيات داخل المجموعتين نجح جناح سلفاكير في استقطابها.
ويرى محللون أن تلك الخطوات إذا ما حصلت ستُدخل البلاد في فترة صعبة، لا سيما أنها تعني سقوط اتفاقية السلام، فضلاً عن الشعور الذي ينتاب بعض القبائل بشأن هيمنة قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها ميارديت، بالنظر إلى قرار تقسيم الولايات واستقطاع أراضي بعض القبائل وضمها لأراضي الدينكا، وهي القضية نفسها التي أشعلت حرباً في مدينة واو، حيث ثارت قبائل الفرتيت ضد الحكومة، وخلّفت تلك الحرب آلاف القتلى ولا زال الوضع محتقناً هناك.
وبدأت أصوات جنوبية تعلو مطالبة بوضع جنوب السودان تحت الوصاية الدولية، وهو موقف أيّده الأمين العام لـ"الحركة الشعبية" المقال وأحد أعضاء مجموعة العشرة المعتقلين، باقان أموم. كما أيّد رئيس "الحركة الشعبية" المعارضة لام أكول إعلان العاصمة جوبا منطقة منزوعة السلاح تحت قيادة الأمم المتحدة للحد من حالة العنف وانزلاق الدولة نحو الحرب.
من جهتها، أعلنت الأمم المتحدة استعدادها للعمل مع الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا "إيغاد" بشأن اقتراحها تشكيل قوة تدخّل ضمن مهمة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب السودان. وقال مسؤول حفظ السلام في الأمم المتحدة إيرفي لادسوس أمام مجلس الأمن، إن "الهدف مثلما أفهم هو تأمين جوبا ومطارها إن أمكن، ليتسنى لحكومة الوحدة الوطنية الانتقالية العمل دون قلق بشأن الأمور المتعلقة بالأمن". وتحتاج مثل هذه الوحدة القتالية لتفويض من مجلس الأمن الذي حث دول المنطقة يوم الأحد على الاستعداد لإرسال قوات إضافية لجنوب السودان في حالة موافقة المجلس على تعزيز بعثة حفظ السلام. وكانت "إيغاد" أصدرت قرارات بعد اجتماع لها، بوضع المطار تحت قيادة القوات الأفريقية، فضلاً عن مطالبات بتوسيع ميثاق الأمم المتحدة الخاص بقوات حفظ السلام في جوبا للسماح بإرسال قوات أفريقية إضافية إلى هناك.


أما الولايات المتحدة الأميركية، فتحركت نحو دول الجوار الجنوبي، إذ أجرى وزير الخارجية الأميركي جون كيري اتصالاً بالرئيسين الكيني والأوغندي ورئيس الوزراء الإثيوبي لبحث التنسيق الإقليمي حيال أزمة الجنوب. وأكدت مصادر أن اتصالات كيري بالرؤساء الأفارقة تمحورت حول بحث فرض الوصاية على الدولة الوليدة، لا سيما بعد فشل القادة الجنوبيين في تنفيذ اتفاقية السلام، فضلاً عن إرسال قوات أفريقية إلى هناك لإدارة الوضع ووضع حد للاقتتال. وأشارت إلى أن اتصالات مماثلة تمت مع الخرطوم التي اشترطت رفع العقوبات والحصار الأميركي عنها للقيام بدور أكبر في جوبا. وكشفت مصادر لـ"العربي الجديد" أن دول الجوار تحفظت عن التدخّل المباشر في جوبا، وفضلت فرض عقوبات اقتصادية على جنوب السودان لعزلها اقتصادياً كنوع من الضغط. وأكدت أن كمبالا رفضت طلب جوبا بالتدخّل كما حصل إبان اندلاع الحرب الأهلية.
كما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما إرسال 47 جندياً إلى جنوب السودان لحماية السفارة الأميركية في جوبا وطاقمها، موضحاً في رسالة إلى الكونغرس نشرها البيت الأبيض أن الجنود الاميركيين الـ47 وصلوا إلى جوبا الثلاثاء، وأن 130 آخرين موجودون حالياً في جيبوتي هم جاهزون للالتحاق برفاقهم "عند الاقتضاء".
في موازاة ذلك، كانت طائرات حربية أميركية وأثيوبية، قد اخترقت المجال الجوي لدولة جنوب السودان الإثنين الماضي، وحلّقت في سماء جوبا طيلة نهار ومساء ذاك اليوم. وقال المتحدث الرسمي باسم الجيش الجنوبي روي لول لـ"العربي الجديد"، إن أربع طائرات حربية أميركية حلّقت في سماء المدينة طيلة يوم الإثنين، مشيراً إلى أن الأميركيين قالوا إن الطائرات أُرسلت بهدف المساعدة في إجلاء الرعايا الأميركيين وحماية السفارة الأميركية من أي هجوم وتأمين طاقمها الدبلوماسي. وأكد استقرار الأوضاع وإعادة فتح مطار العاصمة أمام حركة الطيران.
كما أكد مصدر في الحكومة الجنوبية، إرسال أثيوبيا لأربع طائرات حربية أثيوبية فضلاً عن ثلاث طائرات مدنية عمدت على إجلاء الجالية الأثيوبية في جوبا. ولفت المصدر إلى أن الخطوة تمت من دون علم الحكومة في جوبا، مشيراً إلى أن المنظمات الدولية والبعثات الأجنبية تعمل على إجلاء رعاياها بسبب تخوفها من انفجار الوضع في أية لحظة.
ويرى مراقبون أن الحرب الجديدة إذا ما قامت ستكون قبلية طاحنة تقضي على ما تبقى من الدولة الوليدة، لا سيما أن هناك عوامل عدة ضربت أركانها، بينها خطوة جوبا بتقسيم الدولة إلى 28 ولاية وتفسير القبائل الجنوبية للخطوة بأنها محاولات لتمكين قبيلة الدينكا على حساب القبائل الأخرى بالنظر إلى العداء التاريخي بين القبائل الجنوبية. وتُمثل قبيلة الدينكا أحد أكبر القبائل على مستوى العالم ومستوى دولة جنوب السودان.
ويعتبر المحلل السياسي دينق مدين، أن أي حرب جديدة في الجنوب ستكون عنيفة وستحصل خلالها تحالفات قبلية، تجمع بعض القبائل مع النوير ضد الدينكا، فضلاً عن دخول "الجيش الأبيض" في المشهد، وهو مؤلف من مليشيات من شباب النوير. ويرى مدين أن تلك الحرب في حال اندلعت، فلن تنجح أي جهود إقليمية أو دولية في وقفها، وستحيل الجنوب إلى خراب بالنظر إلى انتشار السلاح بشكل كبير في الدولة وشراسة مقاتليها.
وبدأت المواجهات الأخيرة في جوبا، عبر اشتباكات بين الحرس الرئاسي لكل من ميارديت ونائبه مشار أثناء اجتماع للطرفين داخل القصر الرئاسي، ما دفع مناصري مشار لاعتبار الخطوة بمثابة انقلاب مدبر وأن المقصود منها اغتيال نائب الرئيس داخل القصر أو اعتقاله، على الرغم من أن سلفاكير ومشار سارعا لعقد مؤتمر صحافي مشترك لتأكيد عدم معرفتهما بما يجري خارج أسوار القصر من اشتباكات، وهو أمر اعتبره مراقبون تأكيداً على عدم وجود سيطرة كاملة للرجلين على قواتهما.
وأعلن سلفاكير ومشار الإثنين الماضي وقف إطلاق النار، بعدما امتدت الاشتباكات وتطورت لتصل إلى استعمال الأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية، واستهداف معقل تجمّع قوات المعارضة في منطقة الجبل (على بُعد 5 كيلومترات من القصر الرئاسي) وهو المعقل الذي يقيم فيه مشار منذ وصوله إلى جوبا ليحتمي بقواته، وأدى ذلك إلى تحطيم منزله بالكامل، لكن قواته نجحت في إبعاده عن منطقة الخطر سالماً إلى خارج جوبا.
وشهدت مدينة جوبا عقب إعلان وقف إطلاق النار هدوءاً نسبياً تخللته بعض الانتهاكات وفق شهود عيان، إذ سُمع دوي إطلاق النار بشكل متقطع صبيحة إعلان الخطوة، فضلاً عن اشتباكات وقعت بين "الجيش الأبيض" والجيش الحكومي. ووفق شهود عيان، حصلت حالات نزوح كبيرة داخل جوبا نحو دول الجوار بسبب تخوّف المواطنين من تجدد القتال، فضلاً عن عمليات نهب في أماكن متعددة، وأكدوا عودة الحياة بشكل حذر إلى العاصمة، مشيرين إلى إغلاق معظم المحال التجارية واستنفاد بعض السلع الغذائية، الأمر الذي يجعل ظروف العيش في المدينة صعبة.
وأعلنت الأمم المتحدة الثلاثاء نزوح نحو 36 ألف شخص من جراء المواجهات التي وقعت بمحيط القصر الرئاسي الجمعة والأيام التالية، مرجحة أن ترتفع الأعداد، فيما أكدت منظمات دولية أن البلاد تشهد نقصاً في الغذاء والماء الصالح للشرب. وقال برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، إن ثلاثة أرباع سكان جنوب السودان، في حاجة إلى مساعدات إنسانية نتيجة للصراع هناك.
يُذكر أن جنوب السودان شهدت حرباً أهلية بدأت منتصف ديسمبر/كانون الأول 2013 على خلفية اتهام ميارديت لنائبه المقال وقتها رياك مشار وبعض قيادات "الحركة الشعبية" التاريخية، بتدبير انقلاب ضده، وهي اتهامات جاءت بعد خلافات ضربت "الحركة الشعبية" بعد بروز ميول لدى قادتها في منافسة سلفاكير على كرسي الرئاسة، فضلاً عن مطالبات بالحد من سلطاته داخل الحزب وتقييدها، ما جعل الأخير يسارع إلى حل الحركة والحكومة وإبعاد منافسيه وبينهم مشار وقيادات الحركة التاريخية من الحزب والحكومة.

المساهمون