وفي إطار محاولات القاهرة للتسويق بأن البرلمان في طبرق، الموالي لخليفة حفتر، هو صاحب الكلمة في اتخاذ قرار بما يخص الاتفاقيات، ذكرت وزارة الخارجية المصرية، في بيان، أن وزير الخارجية المصري سامح شكري، ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان، اتفقا في اتصال هاتفي مساء الأربعاء الماضي، على "أهمية استمرار مسار برلين الهادف إلى التوصل إلى حل سياسي لإنهاء النزاع الليبي"، وذلك بحسب بيان للخارجية المصرية. كما اتفقا على "العمل على دعم مؤسسات الدولة (الليبية) وصلاحيات مجلس النواب، باعتباره المجلس التشريعي المنتخب". وأكدا ضرورة "اتخاذ موقف حازم لمواجهة المليشيات والجماعات الإرهابية، وإنهاء الصراع العسكري، وتفعيل المسار السياسي، وصولاً إلى عقد انتخابات حرة في ليبيا".
مصادر دبلوماسية مصرية وصفت، لـ"العربي الجديد"، اتفاق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس حكومة الوفاق الليبي فائز السراج بأنه "هجمة مرتدة متوقعة" كان لها مقدمات عملية، تمثلت في تحرك عدد من سفن التنقيب التركية، بحماية الأسطول العسكري التركي نحو مناطق مُواجهة للسواحل الليبية، للتنقيب عن الغاز، وذلك في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأشارت إلى أن هذه المعلومة أرسلتها اليونان إلى كل من مصر وقبرص وإسرائيل في حينه، وبناء عليها، تم عقد اجتماع استخباراتي رفيع المستوى بين مصر وقبرص واليونان في أثينا الشهر الماضي، بحضور مدير المخابرات المصرية عباس كامل، لدراسة هذه التطورات، وذلك بعد أيام من إجراء مناورة عسكرية مشتركة بين الدول الثلاث.
وأضافت المصادر أن مسألة التعاون الأمني بين أردوغان وحكومة الوفاق يمكن فصلها عن التعاون البحري، لأن المستجد الخاص بها يعبر عن تغير تكتيكي نحو الإفصاح عن طبيعة الحرب بالوكالة في ليبيا، تحاول به تركيا فرض أمر واقع، مفاده بأن السراج هو الرجل المعترف به دولياً في ليبيا، وربما لإضفاء صفة شرعية أمام العالم على التعاون العسكري بينهما، مقابل التعاون المعروف للجميع وغير المعلن والمنتقد دولياً بين مصر والإمارات والسعودية وروسيا مع قائد مليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر.
أما مسألة ترسيم الحدود البحرية فهي التي تشغل بال أردوغان وخصومه الإقليميين أكثر من أي وقت مضى. وأوضحت المصادر أن مصر بدأت اتصالات بالولايات المتحدة وروسيا، منذ بداية الأسبوع الحالي، لانتزاع تصريحات رسمية للتأكيد على مخالفة هذا الاتفاق للقانون الدولي وعدم مراعاته الحقوق الجغرافية لقبرص، وكذلك توقيعه مع سلطة غير منتخبة، وتأثيره على الحقوق الاقتصادية لمصر التي لم ترسم حتى الآن حدودها مع ليبيا، ولن ترسمها بالتأكيد مع حكومة الوفاق التي يعتبرها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي واجهة لجماعة "الإخوان المسلمين"، وذلك من خلال نسف فكرة احتكار امتيازات التنقيب لصالح دول المنتدى، وبالتالي توسيع التنافسية حال استقرار التفاهم التركي الليبي.
وقد أصدرت كل من واشنطن وموسكو بالفعل بيانات تنتقد الخطوة التركية، باعتبارها تؤجج النزاع في المنطقة، لكنها لم تصفها بأنها تخالف القانون الدولي، في الوقت الذي كان فيه هذا الأمر حجر الأساس لبيانات الشجب المشتركة بين مصر واليونان، وتهديد أثينا بالاستعانة بحلف شمال الأطلسي لمواجهة أنقرة. وذكرت المصادر أنه على الرغم من هذه الاتصالات، ومشاركة إسرائيل فيها بشكل سرّي، إلا أنها لا تؤتي ثمارها حتى الآن، في ظل تعاظم الاعتقاد بأن الخطوة التركية، إذا لم يتم السيطرة عليها واحتواؤها سريعاً، فسيصعب تحقيق ذلك مستقبلاً، إلا إذا تغيرت موازين القوى في ليبيا بشكل واضح، وهو ما يثير القلق في القاهرة.
وإزاء ذلك، فإن مصر، بالتنسيق مع اليونان وقبرص، حاولت الرد إعلامياً على مستويين، الأول عبر الإيعاز لرئيس مجلس النواب الليبي الموالي لها عقيلة صالح للتأكيد على عدم شرعية توقيع السراج على أي معاهدات دولية، على الرغم من حقيقة أن الاتفاق مع أردوغان هو "تفاهم"، ولم يأخذ بعد شكل المعاهدة، وهو ما يدخل فعلياً في إطار صلاحياته كرئيس لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً. أما المستوى الثاني فهو نشر العديد من التقارير، بلغات مختلفة عبر الصحف القريبة من السلطة في الدول الثلاث وحليفاتها، عن مخالفة أنقرة للقانون الدولي، فهي لم توقع حتى الآن على اتفاقية البحار الصادرة في العام 1982 وبدأ تطبيقها في 1994، والتي تنص على أن المياه الإقليمية تمتد لمسافة 12 ميلاً بحرياً، وأن المنطقة الاقتصادية تمتد إلى 200 ميل، وأن ترسيم الحدود يكون عندما تكون المسافة بين البلدين في البحر 424 ميلاً، مع مراعاة حقوق الجزر مثل قبرص، وهو ما يجعل تركيا تتجاهل حتى الآن توقيع الاتفاقية لعدم اعترافها بقبرص وحقوقها.
واستبعدت المصادر أن تؤثر هذه الدعاية الإعلامية، المُسيرة بقرارات المخابرات المصرية، في موقف أردوغان، الذي يستغل إعلامه أيضاً في الدعاية المضادة. وفسرت المصادر ذلك بأن كلاً من الموقف الأميركي والروسي حساسان جداً في هذا السياق. فمن جهتها لا تبدو أميركا مستعدة حالياً لفتح صراع جديد مع تركيا، أو الدخول في مشكلة ترسيم الحدود البحرية في أي منطقة، لكنها في الوقت نفسه ترغب في تأمين مصالحها الاقتصادية في منطقة شرق البحر المتوسط. ولذلك، تقول المصادر إن الدوائر اليهودية وذات الأصول اليونانية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي تضغط لسرعة تمرير مشروع القانون المتداول حالياً في الكونغرس، باسم "قانون شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط"، الذي أعده النواب روبرت مينديز وماركو روبيو وكريس فان هولين وغاري بيترز وكريس كونز، ويحظى بدعم واسع من الدوائر اليهودية وذات الأصول اليونانية بالحزبين الديمقراطي والجمهوري. ويهدف مشروع القانون لإنشاء مركز أميركي للطاقة في المنطقة، ووضع خطة متكاملة لتدشين تعاون استراتيجي مع ثلاث دول رئيسية، هي اليونان وقبرص وإسرائيل، للدفاع عن مصالحها المشتركة في مواجهة تركيا. كما يهدف إلى التضييق على أنقرة في ما يتعلق باستكشاف حقول الغاز الطبيعي، بحجة "معاقبتها على تعدد مصادر شراء السلاح الخاص بها، واستخدام الأسلحة الأميركية في ترويع وتهديد قبرص".
كما يهدف المشروع، الذي سبق ونشرت "العربي الجديد" تفاصيله كاملة في يوليو/تموز الماضي، إلى "تقليم أظافر تركيا"، وضرورة وقف بيع طائرات "إف 35" إلى أنقرة إذا استمرت في شراء منظومة "إس 400" من روسيا، وتطبيق العقوبات المقررة في القانون الأميركي عليها، والعمل على إزالة الوجود التركي العسكري من منطقة قبرص التركية غير المعترف بها دولياً إلا من قبل أنقرة، والذي يقدره واضعو المشروع بنحو 40 ألف جندي يستخدمون أسلحة متعددة، من بينها أميركي الصنع، وربط إنهاء وقف بيع الطائرات بأن يقر رئيس الولايات المتحدة خطياً للكونغرس بأن تركيا لا تخطط ولا تنوي تسلم نظم الدفاع الجوي الروسية.
في المقابل، ينص مشروع القانون على إنشاء مركز للطاقة لصالح الولايات المتحدة، بالتعاون مع قبرص واليونان وإسرائيل، التي يصفها المشروع بالدول الحليفة، وذلك بالتنسيق بين وزيري الخارجية والطاقة في الإدارة الأميركية، وبالتعاون بين جميع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، وفتح باب الشراكة للمؤسسات والقطاع الخاص الناشط في مجال الطاقة البحرية، وتأسيس، أو استغلال، جامعة متخصصة في هندسة البترول بإحدى الدول الثلاث الحليفة، لتدشين تعاون علمي وبحثي في مجال تكنولوجيا الطاقة والغاز الطبيعي وهندسة التعدين وعلوم المياه والبرمجيات. ويتضمن مشروع القانون تمويل رفع كفاءة البنية التحتية لقبرص واليونان في مجال التعدين وطاقة البحار، وتمويل برامج التعليم والتدريب العسكري الدولي لليونان وقبرص حتى العام 2022، وإتاحة الفرصة لمنح اليونان 3 مليارات دولار كمساعدة في تحسين وسائل الدفاع، ودعم شبكات إيصال الغاز بين الدول الثلاث، بإشراف أميركا، بهدف تسهيل إيصال الغاز غير الروسي إلى وسط وغرب أوروبا. ولأن محاربة النفوذ الروسي الاقتصادي في المنطقة من الأهداف الرئيسية للمشروع، يلزم مشروع القانون وزير الخارجية بتقديم تقرير إلى الكونغرس، بعد 90 يوماً من إقراره، بالآثار "الضارة" للوجود والتأثير الروسي في هذه المنطقة على الاقتصاد الأميركي.
كما أن هناك تعقيدات تواجه الرؤية الروسية للموضوع نفسه. فمن ناحية، لا يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعضيد موقف رئيس حكومة الوفاق، وهو يدعم انقضاض حفتر على السلطة، لكنه متنبه للأطماع الأميركية لاستغلال منتدى الشرق الأوسط للغاز، والتحركات غير المعلنة لتصفية مشاكل ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان تحديداً لتعظيم استفادة الشركات الأميركية. وتعتبر المصادر المصرية أن تنازع حسابات الربح والخسارة لدى موسكو وواشنطن في هذا الملف قد يؤدي إلى عدم التدخل المباشر في الفترة الحالية، وترك الأمور تمضي في طريقها، مع مراقبة مدى نجاح تركيا في تنفيذ مشاريعها، قبل أن تتخذ الدولتان قراراً بالتدخل، الأمر الذي يزعج القاهرة وأثينا تحديداً، وهو ما نوقش بتوسع خلال لقاء وزيري خارجية البلدين بالقاهرة هذا الأسبوع. بينما تراهن اليونان بشكل أكبر من مصر على استجابة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لدعم قبرص على خلفية الاستجابة السابقة لفرض عقوبات على تركيا.
وتحاول تركيا التصدي لطموحات دول المنتدى لتوسيع شبكة الأنابيب المقامة بين مصر وإسرائيل، والمملوكة حالياً لشركة جديدة أسست خصيصاً لامتلاك شبكة الأنابيب، بين شركتي "نوبل إنيرجي" الأميركية و"ديليك" الإسرائيلية وشركة "غاز الشرق" المملوكة حالياً للدولة، ممثلة في جهاز المخابرات العامة وهيئة البترول، لتشمل قبرص، بهدف الاستفادة من مصنعي إسالة الغاز في مصر، واللذين ستستفيد منهما إسرائيل أيضاً. وتم تداول معلومات متباينة عن مدى نجاح تركيا في إيجاد كميات جيدة من الغاز قبالة سواحلها، ما يفاقم خشيتها من إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الأعضاء، من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد وترشيد كلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية بين أعضاء المنتدى والشركات الأميركية والأوروبية الكبرى، ما يؤثر بالسلب على الاقتصاد التركي. وأسباب التخوف هي نفسها الأهداف التي ترنو إليها واشنطن وحليفاتها.