انطلقت صباح اليوم الأحد في الأرجنتين انتخابات رئاسية لاختيار إما الرئيس المحافظ ماوريسيو ماكري المنتهية ولايته، والمتأخر كثيراً في استطلاعات الرأي، أو منافسه ألبرتو فرنانديز الذي يبدو الأوفر حظاً. ويختار الشعب بين مرشحين أحلاهما مر، بعد تراجع السياسات الاقتصادية والاجتماعية في بلد عانى خلال السنوات الأربع الماضية من تراجع يسار الوسط، وتقدم للفساد والتضخم في عهد الرئيس ماكري، الذي يتهمه خصومه بأن سياساته الليبرالية الجديدة أدت إلى مزيد من إفقار البلد.
وتدعم فرنانديز في هذه الانتخابات كريستينا دي كيرشنر، الرئيسة السابقة للأرجنتين، وزوجة الرئيس الأسبق الذي حكم 12 عاماً، نيستور دي كيرشنر، إذ إنها مرشحة لمنصب نائب الرئيس، ويتهم الزوجان على نطاق واسع بالتسبب بتراجع وضع البلاد ودخوله حالة عجز في القطاع العام ووصول نحو 35 في المائة من الشعب إلى حافة الفقر.
وتذهب دراسة صادرة عن "الجامعة الكاثوليكية الأرجنتينية" إلى تقدير وصول نحو 40 في المائة إلى حافة الفقر، وهي من القضايا التي لم يستطع الرئيس المنتخب من صفوف النخبة الأكاديمية ورجال الأعمال بخلفية أميركية، ماريسيو ماكري، التغلب عليها واستعادة مكانة البلد الاقتصادية السابقة.
وكانت حكومة بوينس آيرس قد حاولت في العام الماضي تغطية العجز الكبير في ميزانية البلاد من خلال قرض من صندوق النقد الدولي وصل إلى نحو 57 مليار دولار أميركي، وتلك المحاولة لم توقف هروب رؤوس الأموال وتركت الأرجنتين فريسة تضخم وصل إلى نحو 50 في المائة للعام الحالي 2019.
ورغم محاولات ماكري هذه، إلا أن الناخبين لا يبدون تعاطفاً معه وسط زيادة انتشار الفقر. ووفقاً لاستطلاعات منظمة "ايدلمان" فإن شعبية الرجل انخفضت من 41 في المائة إلى نحو 31 في المائة منذ 2018، وهو الانخفاض الأكبر في قياسات شعبية الحكام في 26 دولة، ومن بينها أميركا والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا.
حنين إلى الزمن البيروني؟
تظهر الاستطلاعات التي سبقت انتخابات اليوم أن الدورة الأولى ستحمل انتصاراً للمرشح البيروني ألبيرتو فيرنانديز وكريستينا دي كيرشنر.
ويرى الأرجنتينيون أنفسهم من خلال تحول البلد إلى نظام وحركة سميت باسم الجنرال خوان دومينغو بيرون، الذي انقلب على حكومة المحافظين في 1943، وعرفت زوجته ايفا بيرون في أربعينيات القرن الماضي بشعبية جارفة بين شعب البلد.
وكان الجنرال بيرون قد تحول إلى وزير ونائب رئيس البلاد حتى ترشح بدعم من الحركة النقابية ليصبح رئيساً منتخباً. وانتهج بيرون سياسات تأميم لعدد من الشركات وقاد سياسات قوية لمصلحة بلده واقتصاده وتطوير صناعاته ومنح الطبقة العاملة مزايا وحقوقاً من خلال عديد من الإصلاحات التي أدخلها على نظام الرعاية، بما فيها نظام الإجازات المدفوعة والتأمين الصحي وعمل لخمسة أيام فقط، ما جعله يكتسح شعبية الشارع الأرجنتيني، رغم أن الثمن كان القضاء على الحقوق الديمقراطية.
وفي عام 1949 جرى تبني دستور جديد، حمل في بعض نقاطه منح المواطنين حقوقاً اجتماعية في مقابل إغلاق العديد من الصحف في البلاد ومطاردة منتقدي سياساته والمعارضة، ورغم كل تلك الممارسات إلا أن بيرون لم يلغِ الديمقراطية تماماً، ما جعل البعض يصنف سياساته في خانة "الشعبوية المبكرة".
وفي قارة مثل القارة الأميركية الجنوبية، التي عاشت زمناً طويلاً من الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية، لم ترق لبعض العسكر تحولات بيرون بالحفاظ على مدنية الدولة، ما أدى في عام 1955 إلى انقلاب عسكري عليه ونفيه حتى 1973، ليعود الرجل في أواخر عمره ويترشح من جديد وينجح في انتخابات الرئاسة، قبل أن يصاب بسكتة قلبية في العام التالي 1974 ويموت بيرون ومعه إرث يسار ويسار وسط، في ظل حنين فيما يخص حقوق الطبقات الفقيرة.
وتغير وضع الأرجنتين وجرى تحول كبير في الحركة البيرونية منذ موت مؤسسها خوان دومينغو بيرون، حيث شهدت البلاد سياسات ليبرالية انفتاحية في عهد الرئيس كارلوس منعم في تسعينيات القرن الماضي حتى بداية الألفية الجديدة بوصول الزوجين كيرشنر وفرضهما سياسات تقشفية كبيرة، وبوعود تشبه تلك التي تقدم في خطابات شعبوية في أوروبا وغيرها عن أن الأمور ستتحسن.
البيرونية الجديدة، بحسب ما يطلق عليها أستاذ التاريخ في جامعة بيونس آيرس، غابرييل دي ميغليو، تغيرت عن البيرونية الأولى في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، "حيث ارتبطت بشكل مستمر بالطبقة العاملة والنقابات التي مثلتهم".
وفي 2003 أطلق نيستور دي كيرشنر ما سمي "الموجة الوردية"، في سياق تحولات يسارية في أميركا اللاتينية، وفي موجة التغييرات التي جعلت دول القارة تتكاتف بوجه سياسات أميركا ونفوذها في القارة.
لكن مع انفجار مشاكل عديدة في القارة اللاتينية، حيث لم يعد حزب "العمل" البرازيلي هو الحاكم في البرازيل، وانتهت حقبة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز بموته ومصاعب جمة تواجه ساسة فنزويلا والإكوادور ورئيس بوليفيا ايفو موراليس، فإنه لا يبدو أن خطاب ومسار التضامن اللاتيني الذي واصله دي كيرشنر يمكن أن ينقذا الأرجنتين من مزيد من الفقر والتضخم، وبعد أن خسرت كريستينا دي كيرشنر لمصلحة ماوريسيو ماكري في الانتخابات الأخيرة في 2015 بدا واضحاً لمراقبي الشأن اللاتيني أن موجة اليسار والوردية باتت تعاني أكثر.
والطبقة العاملة الأرجنتينية، التي اعتبرت ذات يوم هويتها هي الهوية البيرونية، تعاني أيضاً في حالة اقتصاد متعثر رغم وعود ألبيرتو فيرنانديز بإنقاذ البلد، فلا يبدو وفقا لتقديرات الصحافة اللاتينية أن أكثر من 30 في المائة من عمال الأرجنتين سيصوتون للرجل، فيما الواقع السياسي يفرض خيارات براغماتية على بقية طبقات المجتمع.
وسعت الحركة البيرونية يوم الخميس الماضي بكل قوة إلى جذب المترددين للتصويت لفيرنانديز، لكن مشاكل الاقتصاد في البلد، وتهم الفساد التي تطاول كريستينا دي كيرشنر، المحسوبة أيضاً بأنها جزء من الحركة البيرونية كما كان يدعي زوجها الرئيس السابق، نيستور دي كيرشنر، أمور لا تصب في مصلحة لا السياسة ولا الاقتصاد الأرجنتيني المتعثر، في أجواء لاتينية تشير في مجملها إلى مصاعب غير بعيدة عن تلك التي في سانتياغو بتشيلي أو بوليفيا والإكوادور وغيرها.