تقترب نهاية السنة الثالثة من رئاسة دونالد ترامب، وهي محمّلة بعلامات هبوط تنذر بزعزعة أوضاعه، في وقت يقف فيه على أبواب حملته الانتخابية. تصويت مجلس النواب الأربعاء على عزله، كان ذروتها. شكّل لطمة سياسية من النوع الذي يتعذر محو آثارها. وزاد الطين بلّة أن مجلس الشيوخ المساند له، لن يقوى في القريب العاجل على إزاحة هذا الكابوس، أو التخفيف من وطأته بتبرئة الرئيس، بعد أن جمّد النواب إحالة القضية إليه، ولغاية قبوله بشروط قد تفاقم من مشكلة ترامب. الأهم من ذلك، وربما الأخطر، أن قاعدته الشعبية الفولاذية التي طالما عوّل عليها بدأت تظهر فيها تفسّخات تهدّد باستفراده، خصوصاً إذا توسعت وتطورت إلى انشقاقات، أو على الأقل إلى تراخي براغيها، وبما يهدّد معركته لتجديد رئاسته.
ففي عددها الجمعة، كتب رئيس تحرير مجلة "المسيحية اليوم" افتتاحية بعنوان: "المطلوب إزاحة ترامب من الرئاسة"، على أساس أن سلوكياته الأخلاقية لم تعد مقبولة. مفاجأة صادمة بمصدرها وتوقيتها. لم يكن أحد ليتوقف عند هكذا عنوان لو نشرته صحيفة أو مجلة لمعارض، أو معلّق، أو محلّل سياسي يختلف مع ترامب. كثير من هذه البضاعة متداول هذه الأيام في سوق الإعلام وأروقة السياسة في واشنطن. فهو طبيعي ومتوقع في إطار حرية التعبير والاعتراض المكفولة بالدستور. لكنّ صدوره عن هذه المجلة بالذات، وبقلم من يعكس موقفها، جعل منه حديث الساعة لما ينطوي عليه من مدلولات سياسية توازي في ظاهرها نوعاً من الانقلاب على الرئيس في معقل نفوذه. أو هكذا كانت قراءتها للوهلة الأولى. ولهذا ما يبرّره. فهذه المجلة أسّسها رجل الدين الشهير بيلي غراهام، الذي كان يُعتبر بمثابة البطريرك والمرجعية للطائفة الإنجيلية المنتشرة غالبيتها في الجنوب الأميركي، والتي يُطلق على يمينها المتشدد بقيادة رجال دين آخرين مثل غاري فالويل وبات روبرتسون، لقب "المسيحيين الصهاينة"، لشدة تأييدهم المطلق لإسرائيل.
هذه الكتلة الإنجيلية تشكّل واحدة من أهم ركائز الحزب الجمهوري وقاعدته الانتخابية. ومع مجيء ترامب، تحولت إلى ما يعرف بالنواة الصلبة لقوته الانتخابية، والتي استقوى بها لإحكام سيطرته على الجمهوريين في الكونغرس. فهي بتأييدها المطلق له جعلت منه عموماً الممرّ الإجباري لأي مرشح جمهوري يتطلع إلى انتخابات الكونغرس. وقد كان بيلي غراهام، ولغاية وفاته العام الماضي، الرمز الروحي والسياسي ضمناً لهذا الثقل الانتخابي، كما كان من مؤيدي الرئيس ترامب.
على هذه الخلفية، جاءت الافتتاحية بمثابة هزة مزلزلة للبيت الأبيض، الذي تعاطى معها كإنذار بالتخلي عنه من جانب الخط الدفاعي الأقوى في ترسانته السياسية. سارع في تغريداته إلى عزل المجلة كطرف يراهن على "المرشحين الاشتراكيين والشيوعيين مثل بيرني ساندرز واليزابيت وورن للدفاع" عن المسيحيين الإنجيليين في أميركا، الذين خاطبهم بلغة تدمج بين الدين والسياسة في بلد ينص دستوره على الفصل بينهما. كما سارعت وسائل الإعلام الحليفة للرئيس مثل "فوكس نيوز" إلى استنطاق ابن ووريث بيلي غراهام، بنجامين، الذي أكد هو الآخر تنصله من مضمون المقالة، مع التشديد على استمرار تأييده مع الطائفة للرئيس ترامب.
وبدا أن أكثر ما أثار تخوف البيت الأبيض، هو إدانة رئيس تحرير المجلة للاتصال الذي أجراه الرئيس ترامب مع نظيره الأوكراني، والذي أدى إلى قرار العزل، واستطراداً اعتبار أن القضية ضده في هذا الخصوص "واضحة" وبما يستوجب عزله. موقف يتصادم مع البيت الأبيض ومع الجمهوريين في الكونغرس، ما اقتضى المسارعة إلى لفلفته من خلال الترويج إلى أن المقالة تعبّر فقط عن رأي رئيس التحرير الذي يعتزم "مغادرة موقعه" قريباً!
لكن التبرير لم يقوَ على إزالة التساؤلات. فالافتتاحية توافق عليها هيئة التحرير. ثم أنه من المستبعد أن يكون رئيس التحرير قد انفرد في هذا الرأي، لو لم تكن هناك خميرة لحديثه في أوساط الإنجيليين الذين يُقال إن هناك تململاً في أوساطهم من "سلوكيات" الرئيس. يعزز هذا الاعتقاد ما يتردد عن تزايد "عبارات الضيق في المجالس الخاصة" للجمهوريين من تصرفات الرئيس، على حدّ تعبير السناتور الديمقراطية السابقة كلير ماكاسكيل، التي نقلت ما سمعته من همس في هذا الخصوص من جمهوريين في مجلس الشيوخ، وهو كلام تردّد على أكثر من لسان، وصدرت إشارات تؤكده عنهم مثل السناتور ميت رومني وغيره.
هل يُترجم هذا التأفف إلى موقف يدين الرئيس في محاكمته أمام مجلس الشيوخ عندما تحصل؟ احتمال مستبعد. لكن المؤكد أن البيت الأبيض في هذه اللحظات لا يشعر بالارتياح، فهو يجد نفسه بين العزل، ولو المجمّد، وبين اشتداد العزلة.