ولم يكن انشغال البعض بما تحتويه رفوف مكتبة الزعيم الشعبوي الإيطالي، وزير الداخلية وزعيم ليغا، ماتيو سالفيني، المعلن لانتصاره بصورة شكر للإيطاليين: علم روسيا، صورة الرئيس فلاديمير بوتين، وقبعة شعار الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنجعل أميركا عظيمة ثانية، كإشارة لعمق الاختلاف بين توجهات القوميين الأوروبيين المتشددين واليمين التقليدي، الذي يعاني هذه الأيام من تراجع على الصعيد الوطني والأوروبي.
ربما تكون النتيجة التي صارت إليها تركيبة برلمان أوروبا، مع تثبت النتائج النهائية، في اليوم التالي لتصويت ناخبي دول الاتحاد الأوروبي، قريبة بعض الشيء للاستطلاعات وللتوقعات التي ترافقت والحملات الانتخابية. ورغم ذلك، فإن النتائج الوطنية، في أكثر من بلد، تشير إلى أن أوروبا، على مستواها التشريعي، ذاهبة إلى مواجهة مصاعب نشوء برلمان "الأجنحة" بخسارة الكتل التقليدية، يسار ويمين الوسط التاريخي، لهيمنتها المطلقة في السابق.
ليس فقط أن الأحزاب التقليدية في المعسكرين خسرت مجتمعة أكثر من 80 مقعداً، بخسارة كتلة "الحزب الشعبي"، المحافظين، لنحو 43 مقعداً، وكتلة "الديمقراطيون والاشتراكيون"، يسار الوسط، لنحو 39 مقعداً، ما يعني بحسب تسمية الأوروبيين، أقله في دول الشمال، أن برلمان أوروبا سائر إلى طريق أكثر تفتتاً وغرقاً في تسويات ومساومات بين كتله.
نتائج غير مريحة
في الجانب الأوضح للنتائج، فإن أحزاب السلطة التقليدية (القديمة) في أوروبا تواجه اليوم تحديات توصف بـ"معاقبة الناخبين ديمقراطياً" بالتصويت، في اتجاهات أخرى تزدهر في الأجنحة. ومنحت "حمى البيئة" كتلة "الخضر" 17 مقعداً إضافياً، من 50 في 2014 إلى 67 حالياً، بحسب آخر نتائج فرز للأصوات. فيما يبدو أن "واقعية" أوروبية ما تنشأ في الشارع، وانعكست بزيادة كتلة الليبراليين بـ41 مقعداً لتحل ثالثة بـ108 مقاعد.
لكن النظر إلى النتيجة على صعيد وطني أضيق، قبل أن تتوسع الصورة لتعرف كل كتلة حجمها في صراعها على مستقبل الاتحاد الأوروبي، ومناصب قيادته بشكل خاص، يفيد بأن الأمور ليست سهلة على المعسكرات السياسية المتعددة.
فنشوة الانتصار الشعبوي، واليمين القومي المتشدد، التي عبر عنها مبكراً وزير داخلية إيطاليا، زعيم حزب "ليغا"/ الرابطة (رابطة الشمال سابقاً)، ماتيو سالفيني، بحصول حزبه على المرتبة الأولى بتصويت نحو 33 في المائة لحزبه، لم يخفف من وطأتها على الأوروبيين نجاح سياسي متشدد آخر في المجر، رئيس الوزراء فيكتور أوربان، من تثبيت نتيجة شعبوية غير مطمئنة لمجموع "الحزب الشعبي"، إي بي بي، المتراجعة في برلمان أوروبا.
أوربان حصد نحو 53 في المائة من مجموع أصوات المجريين. نتيجة تشبه أيضاً تقدم حزب يميني متشدد في السويد، "ديمقراطيو السويد"، بحصد أكثر من 15 في المائة. ورغم أن زميليهما في التشدد الدنماركي والهولندي، حزب "الشعب الدنماركي"، وحزب "الحرية الهولندي" بزعامة غييرت فيلدزر، حصدا أسوأ نتيجة على الإطلاق، بخسارة الأول لثلاثة مقاعد والثاني، الهولندي، لأربعة. تظل نتائج هذه الانتخابات الأوروبية مقلقة لطبقة سياسية تقليدية تنظر بحسرة إلى تحديات القارة مع نوع جديد من السياسيين والحركات والأحزاب في اليمين القومي المتشدد، رغم أن أماني ماتيو سالفيني في تحويل تحالفه الناشئ إلى قوة ثالثة في البرلمان الأوروبي لا تزال بعيدة المنال، بتراجع زملائه في أكثر من مكان، في الدنمارك والنمسا، التي استفاد فيها من فضيحة حزب "الحرية" بزعامة هاينز كريستيان شتراخه، حزب "المحافظين" بزعامة المستشار سبستيان كورتس بأفضل نتيجة لحزبه تتجاوز 34 في المائة.
تناقض القيم الأوروبية
ورغم ذلك فلعل أبرز تحد يواجهه الاتحاد الأوروبي، بعد هذه النتائج، هو أن القضية لا تتعلق فقط بما يجري، أو سيجري، في أروقة ودهاليز البرلمان الجديد، بل في ما ستكون عليه الانعكاسات على سياسة الاتحاد وتركيبته في عاصمته بروكسل. فتراجع يمين ويسار الوسط، في كتلتي "EPP" و"S&D"، أكبر مجموعتين شكلتا الأغلبية منذ 1979، يخلق أجواء بعيدة عن الاستقرار واليقينية التي كانت قائمة.
فأن يحصد الإيطالي سالفيني 33 في المائة، وشريكه في "النجوم الخمس" نحو 15 في المائة، ليس أمراً عادياً في العلاقات الأوروبية الداخلية، آخذين بالاعتبار أننا أمام حزبين حاكمين، وبالأخص في بلد مؤسس للاتحاد الأوروبي كإيطاليا. بل إن تقدم حزب رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، فيديز، بكل ما شكلته شخصية أوربان من أزمات متتالية في علاقته ببروكسل، واتهامه بأنه بات يأخذ المجر بعيداً عن القيمية الأوروبية، يضاف إليه تعزز موقع حزب "النظام والقانون" في بولندا، بنحو 42 في المائة، مع الأخذ بالاعتبار أن وارسو تعيش أزمات شبيهة بأزمات بودابست مع ساسة الاتحاد في ما يتعلق بفرض قوانين غير مألوفة لدول الاتحاد الأوروبي، أو كما يسميها رافضوها "تناقض القيم الأوروبية"، التي على أساس التزام الدول بها جرى ضمها إلى النادي الأوروبي في الاتحاد.
وتقدم اليمين المتشدد في أكثر من بلد أوروبي آخر في الغرب لا يقلل منه أيضاً تقدم رفاقهم في معسكر اليمين المتشدد في بلغاريا بنسبة 30 في المائة، مع كثير من الأسئلة الأوروبية حول التزام صوفيا، وجارتها بوخارست أيضاً، بمقتضيات عضوية الاتحاد الأوروبي. ولن يكون غير مهم أيضاً في المؤشرات المستقبلية لتراجع الاجتماعي الديمقراطي في سلوفاكيا وتقدم القومي المتشدد في الجارة تشيكيا بنسبة 9 في المائة. فالواضح أن المشاركة، وإن ارتفعت قليلاً عن 2014، إلا أنها تظل متدنية في البلدين، ومقلقة للأوروبيين حول الالتزام بمعايير المشاركة الديمقراطية، والتي لم تتجاوز 21 في المائة في الأولى و22 في الثانية، مقارنة بنحو 50 في المائة في المتوسط الأوروبي؛ مع ملاحظة ارتفاعها في اسكندنافيا لتتجاوز الـ66 في المائة، والتي تُرد إلى خشية من سيناريو "البريكست" والفائدة التي باتت شعوب هذه الزاوية من القارة تراها بعضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي.
وبكل الأحوال لا يمكن أيضاً إغفال تقدم أحزاب البيئة/الخضر في أكثر من مكان، وهو المعسكر الأقرب إلى اليسار، فعززه تقدم في صفوف الأخير في أكثر من بلد، كالسويد والدنمارك، إذ في كوبنهاغن حصد حزب "الشعب الاشتراكي" مقعدين وحصل السياسي اليساري نيكولاي فيلومسن على مقعده، ليمثل اليسار كاللائحة "الموحدة"، مع ملاحظة تعزز نظرة "ضرورة التصويت" بين جاليات المهاجرين، التي يبدو أنها ساهمت بزيادة نسبة المشاركة إلى أكثر من 66 في المائة، وأعطت المشاركة المرتفعة هذا اليسار أفضلية مع حصول يسار الوسط، راديكال فينسترا، على مقعد إضافي بفضل دعاية كبيرة بين هؤلاء المواطنين من أصول مهاجرة. ولا يمكن إغفال التقدم الاشتراكي في إسبانيا (بنحو 32 في المائة)، ولو على الصعيد الداخلي، إذ يبدو هاماً بتجاوزه الحزب المحافظ، نحو 20 في المائة، وعدم ثبات ما كان يتوقع أن يحصده الشعبويون في حزب "فوكس" (فحصل فقط على نحو 6 في المائة، وهي زيادة بالطبع بـ5 في المائة عن 2014).
"رقصة تانغو"
النتيجة إذاً أن الأحزاب الأوروبية التقليدية، التي يجلس مرشحوها الناجحون في الانتخابات البرلمانية الأوروبية موزعين بين مختلف الكتل، أزيحت قليلاً عن احتكارها للمشهد. فالصورة هي على نحو مختلف الآن: تقدم لتحالف الديمقراطيين - الليبراليين (كتلة آلدي ALDE) والخضر والمتشككين بالاتحاد الأوروبي. الأرقام الأخيرة التي يعرضها موقع البرلمان الأوروبي، صباح الاثنين، تفيد بأن كتلتي الحزب "الشعب المحافظة" (EPP) و"الديمقراطية الاشتراكية" (S&D)، لديهما 329 نائباً من أصل 751، وبذلك لا يمكن أن يشكلا الأغلبية التي شكلاها سابقاً.
أمام الكتلتين، مع تعقد الصورة، الاضطرار إلى ما يسميه المراقبون هذا الصباح "الذهاب إلى رقصة التانغو" مع كتلة الليبراليين التي لديها 107 نواب، أو سيصبح الأمر أكثر تعقيداً في اتخاذ قرارات في ستراسبورغ وبروكسل. هذه الرقصة ممكنة إذا ما عرفنا أن بعض أحزاب كتلة "آلدي" تضم أحزاباً من يمين الوسط المعتدل، كحزب "فينسترا" الحاكم في كوبنهاغن وراديكال فينسترا الدنماركي المحسوب على يسار الوسط، وغيره من أحزاب اسكندنافية وأوروبية أقرب إلى الكتلتين من كتل الأجنحة.
لكن، رغم كل ما شهده البرلمان الأوروبي اليوم من نتائج، فإن شيئاً لا يمكن أن يبقى ثابتاً أو مسلماً به لناحية تقسيم وتوزع الكتل تحت سقفه المستقبلي. فالتشظي والاختلاف القائم يمكن أن يؤدي إلى قفز لأحزاب وشخصيات من كتلها المحسوبة عليها إلى أخرى، كما في حالة المجر وغيرها من الدول التي تتصادم مع أكبر كتلتين في البرلمان الأوروبي، وسعي ماتيو سالفيني لجذب الأحزاب الشعبوية إلى الكتلة الناشئة. وحتى لو أخذنا سيناريو تجري مناقشته من محللي الشأن الأوروبي فجر الاثنين فيمكن أيضاً، لمواجهة هذه المرحلة الصعبة، أن يكون للخضر/ البيئيين، دوراً ما مع كتلة الديمقراطيين-الاشتراكيين، على الأقل في ما خص التصويت للمناصب القيادية، ومن بينها مساومات يسار الوسط في راديكال فينسترا في كوبنهاغن للدفع بالمفوضة الدنماركية ماغرتيا فيسترآيا لتحتل منصب نائبة رئيس المفوضية الأوروبية.
الأيام والأسابيع المقبلة حبلى بالمساومات والمفاوضات للتوصل إلى مخارج وتسويات لحل عقد واستعصاءات كثيرة في أوروبا، وليست كلها تحت سقف البرلمان الأوروبي، بل بعيون متفحصة لمجريات التحولات السياسية للناخبين في الدول الأعضاء.