من جديد اشتعل الملف الكوري الشمالي، وأشعل معه الجدل في واشنطن حول كيفية التعامل مع التحدي الذي تطرحه بيونغ يانغ. ويبدو في غياب المفاجآت والخطأ في الحسابات، أن واشنطن بدأت، خلافاً لخطاب رئيسها، دونالد ترامب، تسير خطوة خطوة نحو التسليم بواقع كوري شمالي نووي - صاروخي، والتعايش معه في إطار العمل على ضبطه واحتوائه، لكن من دون ضمان السيطرة عليه. موقف الإدارة يتبدل كرقاص الساعة، فالتباين في صفوفها، والتحديات المحلية والخارجية التي تواجهها، تشي بأنها لا تملك البديل العملي المقبولة كلفته وتسويغاته، عن سياسة الاعتراف الضمني بالأمر الواقع، رغم التحذيرات "النارية" لترامب. توجُّه تتضح ملامحه في ردود فعل إدارة ترامب على تفجير كوريا الشمالية قنبلة هيدروجينية، والتي جاءت امتداداً لما سبقها من ردود على التجارب الصاروخية. ففي كل مرة تكرر الإدارة التوعد والتحذير، ثم لا تلبث أن تتراجع في ضوء شح الخيارات التي تملكها.
وإذا كان الجدل الأميركي حول كيفية التعامل مع بيونغ يانغ لم يحسم بعد، إلا أن الغلبة أخذت تميل لصالح الابتعاد عن المواجهة قدر المستطاع، ما لم تصبح إجبارية. وما يعزز هذه المقاربة أن كوريا الشمالية، التي تمارس لعبة حافة الهاوية، لن تذهب في التحدي إلى حدود حمل واشنطن على الرد بضربة عسكرية لا يتحكم أحد بمجرياتها، وتعرف بيونغ يانغ أنها لن تكون في صالحها في النهاية. وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، المشرف على هندسة الرد على التحدي الكوري الشمالي، وضع بعض النقاط على الحروف في هذا الاتجاه. حصر تشدده في الرد العسكري الكاسح ضدّ بيونغ بانغ بقيامها "بعمل عدواني ضد أميركا أو أحد حلفائها". أسقط من تحذيره التجارب النووية أو الصاروخية. وبالتالي فإن الرد أصبح يقتصر على العدوان المباشر، وفي ذلك إشارة إلى تحوّل في الموقف الأميركي الردعي، بحيث بات ينطوي على حذف التجارب من قائمة الممنوعات، ما يعني التراجع عن خطاب الوعيد والتهديد الذي نطق به ترامب، والذي كان آخره، قبل أيام، حين كتب "تغريدة" اعتبر فيها أن "زمن الدبلوماسية لحل الأزمة مع كوريا الشمالية انتهى". لكنه في الواقع لم ينته طالما "ليس في اليد ما هو أفضل وأنجع". ويقول أحد الجنرالات المتقاعدين إن "مثل هذا الكلام المتوعد لا يساعد". ويؤيده في ذلك كثير من المراقبين والنخب السياسية والعسكرية والفكرية المعنية بشؤون السياسة الخارجية. لكن ليس من بين هؤلاء من يطرح البدائل المناسبة، ما خلا العمومية منها، كالتي تشدد على أهمية "ما تفعله أميركا وليس ما تقوله". وليس هناك من طرح يحدد ما الذي يتوجب أن تفعله في هذه اللحظة لوضع حد للتحدي الكوري الشمالي، وبالتالي لاستباق المزيد من التصعيد والانفلات الكوري. وما يزيد من الارتباك أن خيار العملية العسكرية الموضعية التي تستهدف أماكن ومراكز ومنشآت نووية وصاروخية معينة في كوريا الشمالية، قد تكون عالية الكلفة على كوريا الجنوبية، حتى لو أصابت الضربات هذه الصناعات في الصميم، حسب معظم التقديرات الأميركية، وخصوصاً أن سيول تعارضه.
ويبدو الوضع وكأنه يدور في دوامة مغلقة: بيونغ يانغ ترفع وتيرة التصعيد "المحسوب"، وواشنطن تتنقل في ردها بين التهديد والضغوط الدولية والتعويل على الدبلوماسية الصينية. الأول، لا يبدو أن كوريا الشمالية تأبه له حتى الآن، فيما الثاني أثبت عدم جدواه. وصار من الواضح أن بكين ليست في وارد لي ذراع جارتها إلا بثمن كبير، مثل الانسحاب العسكري الأميركي من كوريا الجنوبية، والذي طالما اعتبرته الصين بمثابة "حالة استفزازية" تثير كوريا الشمالية و"تحملها على التحدي عبر التجارب الصاروخية والنووية". مأزق ترى بعض الدوائر الأميركية أن لا مخرج منه "إلا بترتيب طاولة حوار مع كوريا الشمالية"، كما تقول "المجموعة البحثية لحل الأزمات الدولية" في واشنطن. فهل تسير الأمور في هذا الاتجاه إذا ما بات التعايش مع الواقع الكوري الشمالي سياسة معتمدة في واشنطن؟