لم تغب محافظة دير الزور في أقصى الشرق السوري عن واجهة الأحداث منذ سنوات، إذ تتوالى التطورات في المحافظة التي تضم جانباً كبيراً من ثروات سورية، وباتت اليوم موزعة بين مختلف فرقاء الصراع، إذ ينشر "الحرس الثوري" الإيراني أهم مليشياته في ريف المحافظة الشرقي، مع تخطيط طهران لربط أراضيها بالبحر المتوسط عبر ممر بري يمر من هذا الريف، الذي تقف على ضفته الأخرى "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
ويشهد الجانب الذي تسيطر عليه "قسد"، التي تشكل "وحدات حماية الشعب" الكردية ثقلها الرئيسي، بين آونة وأخرى حركة احتجاجات سلمية رداً على تجاوزات أفراد هذه القوات، التي اقتحمت في اليوم الأول من العام الجديد المستشفى الطبي في بلدة الكسرة في ريف دير الزور الغربي شمال نهر الفرات، واعتدت بالضرب المُبرح على العاملين فيه، وهو ما دفع الأهالي في البلدة إلى قطع الطريق عند المستشفى وإشعال الإطارات احتجاجاً على ذلك.
وقالت مصادر محلية إن مسلحين ينتمون إلى ما يسمّى بـ"مجلس دير الزور العسكري"، ضمن "قسد"، يقودهم المدعو محمد السلامة، اعتدوا على الأطباء والممرضين وجميع العاملين ضمن المستشفى. وأعلن مستشفى الكسرة تعليق عمله حتى إشعار آخر، احتجاجاً على الاعتداء، ولضمان حماية طاقم المستشفى، في حين خرج أهالي البلدة بتظاهرة وقطعوا بعض الطرق، مطالبين بمحاسبة عناصر "قسد" الذين قاموا بالاعتداء. وفي السياق، قُتل وأصيب، الأربعاء الماضي، عدد من الأشخاص، جراء تفجير استهدف حاجزاً لـ"قسد" في بلدة أبو حمام بريف دير الزور الغربي. وأفادت وكالة "هاوار"، التابعة إلى "الإدارة الذاتية"، بأن التفجير ناجم عن انفجار سيارة مفخخة بجانب حاجر السنور في بلدة أبو حمام، وأسفر عن مقتل امرأة وثلاثة أطفال، وإصابة بعض المدنيين بجروح، مشيرة إلى طوق أمني فرضته القوى الأمنية في موقع التفجير. ودأبت "قسد" على القيام بين فترة وأخرى بعمليات دهم للبلدات والقرى التي تسيطر عليها في ريف دير الزور، تحت ذريعة البحث عن مطلوبين مرتبطين بتنظيم "داعش"، وهو ما يجعل المنطقة برمتها على حافة الانفجار. ولطالما عبّر الأهالي عن استيائهم من الأوضاع الأمنية والاقتصادية بتظاهرات في أغلب البلدات والقرى التي تعيش ظروفاً معيشية صعبة، على الرغم من وجود حقول النفط والغاز في أراضيهم والتي تسيطر عليها هذه القوات.
ونظرة على جغرافيا محافظة دير الزور في شرقي سورية، والتي تبلغ أكثر من 33 ألف كيلومتر مربع، تظهر أن أغلب أطراف الصراع السوري موجودة في المحافظة، التي خرجت عن سيطرة تنظيم "داعش" في العام 2017 بعد سنوات من تواجده فيها. وتسيطر "قسد" على قسم من ريف المحافظة الغربي، إضافة إلى كامل الريف الشرقي وصولاً إلى مدينة البوكمال الحدودية. ويعتبر الجزء الذي تسيطر عليه "قسد" الأهم، كونه يضم أبرز حقول وآبار النفط والغاز، وفي مقدمتها حقل العمر، وحقل التنك. وينتج حقل العمر حالياً نحو 45 ألف برميل يومياً، بينما كان ينتج سابقاً ضعف هذا الرقم. ويليه حقل التنك، الذي قُدّر إنتاجه قبل 2013 بنحو 40 ألف برميل يومياً، بينما يُقدّر إنتاجه حالياً بما بين 10 و15 ألف برميل. كما يحوي ريف محافظة دير الزور على العديد من الحقول والآبار منها حقل ومعمل "كونيكو" للغاز. ويقيم التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، قاعدة ضمن حقل العمر النفطي، كما تنتشر قوات أميركية في عدة نقاط أخرى لحماية آبار وحقول النفط في المنطقة.
في المقابل، يسيطر النظام السوري على مدينة دير الزور مركز المحافظة، وجانب من ريفها الغربي، إضافة إلى محيط مدينة دير الزور وصولاً إلى مدينة الميادين، حيث يبدأ النفوذ الإيراني المباشر. وتسيطر المليشيات الإيرانية على مدينة الميادين والمنطقة التي تليها على طول الضفة الجنوبية لنهر الفرات، وصولاً إلى مدينة البوكمال على الحدود السورية العراقية التي باتت معقلاً إيرانياً بامتياز. وأقام "الحرس الثوري" الإيراني في البوكمال ومحيطها عدة قواعد، أبرزها قاعدة "الإمام علي" في منطقة الهري بمحيط البوكمال وتضمّ 15 نقطة عسكرية، بينها 10 نقاط تحوي عدداً من مخازن السلاح وساحات لتدريب المقاتلين، إضافة إلى عدد من المقار العسكرية للمليشيات المدعومة من إيران، فضلاً عن خمس نقاط أخرى تحوي منصات إطلاق صواريخ متطورة. وهناك قاعدة حقل الورد النفطي في محيط البوكمال، وتعتبر تجمّعاً لـ"الحشد الشعبي" و"حركة النجباء" العراقية، وعدد آخر من المليشيات الإيرانية، وقد زارها رئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري، أواسط مارس/آذار من العام الماضي أثناء جولته على القواعد الإيرانية في المحافظة. كما أقام "الحرس الثوري" الإيراني قاعدة "تي 2"، في البادية المقابلة لمدينة البوكمال، وهي الأقرب لقاعدة التنف الأميركية على الحدود السورية العراقية، وعلى مقربة منها أيضاً هناك جيب أخير لتنظيم "داعش".
وهناك قواعد أخرى تأتي في سياق محاولات إيران ترسيخ نفوذها في الشرق السوري، الذي يعبر منه الطريق البري الذي تخطط لإنشائه، ويمر من العراق ثم سورية وصولاً إلى البحر المتوسط. وكان افتتاح معبر البوكمال الحدودي مع العراق العام الماضي خطوة واسعة بهذا الاتجاه. وقصف طيران التحالف الدولي، وآخر يُعتقد أنه إسرائيلي، عدة مرات القواعد الإيرانية في شرق سورية العام الماضي، وطاول القصف قاعدة "الإمام علي". وأكدت قناة "فوكس نيوز" الأميركية، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، أنه من المقرر أن تأوي القاعدة آلاف العناصر، كما يمكن إخفاء شاحنات وكميات كبيرة من المعدات العسكرية داخلها، حسب الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية التابعة لشركة "ISI" . وأشارت إلى أن الصور الفضائية أظهرت خمسة مبانٍ مختلفة تم بناؤها حديثاً وتحيط بها أكوام ترابية كبيرة. كما تظهر في الجزء الشمالي الغربي من القاعدة 10 مخازن إضافية مع حماية خارجية أقل، وأيضا مبانٍ جديدة وهياكل تخزين الصواريخ. وأضافت أن هذه ستكون من أكبر القواعد التي تبنيها إيران في سورية، وأسندت مهمة بنائها لـ"فيلق القدس".
ومنذ أيام، ذكرت شبكة "دير الزور 24" الإخبارية المحلية، أن "فوج السيدة زينب" الإيراني وصل إلى مدينة البوكمال أقصى شرق محافظة دير الزور. وأوضحت أن تعداد عناصر المليشيا قرابة 100 عنصر، وصلوا إلى دير الزور منذ 10 أيام، مشيرة إلى أنّ المجموعة تمركزت في محطة الـ"تي 2" في بادية البوكمال، وفي منطقة الحزام في المدينة. وتنتشر العديد من المجموعات الموالية لإيران في ريف دير الزور الشرقي، منها "حزب الله" اللبناني و"لواء فاطميون" و"لواء زينبيون" و"لواء الباقر" و"لواء 47" و"لواء ذو الفقار" و"فيلق أسود عشائر سورية" و"كتائب الإمام علي" و"كتائب عصائب أهل الحق" وحركة "النجباء".
وتُعدّ محافظة دير الزور من المناطق المرشحة للصدام، في حال حدوثه، بين طهران وواشنطن. وتعمل إيران، منذ أواخر العام 2017، على بسط نفوذ عسكري وأمني وثقافي في ريف دير الزور الشرقي، إذ تعبث بهوية المنطقة التي تقطنها عشائر عربية معروفة، من خلال شراء العقارات، أو منع السكان من العودة إلى بيوتهم، ونشر "التشيع" من خلال استغلال الضائقة المادية لأهالي المنطقة. وأقام "الحرس الثوري" مدارس تدرس الأطفال اللغة الفارسية، مع تقديم تسهيلات ومنح دراسية للطلاب لمتابعة الدراسة في طهران، مع التكفل بكل المصاريف المترتبة عليهم أثناء دراستهم. وافتتحت إيران داخل مدينة دير الزور مركزاً ثقافياً في سياق سياسة تهدف إلى تغيير وجه المحافظة التي كانت واحدة من أهم السلال الغذائية السورية، فضلاً عن كونها تحوي جانباً كبيراً من ثروة البلاد النفطية، واليوم باتت ميدان صراع مؤجل بين مختلف الفرقاء في سورية، تغيب عنه فصائل المعارضة السورية التي لا تملك أي وجود في المحافظة.