برحيل الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، والذي أعلنت وفاته اليوم، تطوي فرنسا صفحة مهمة من تاريخها السياسي المعاصر، ذلك أن رجل الجمهورية الخامسة ساهم في صنع السياسة الفرنسية الداخلية والخارجية طوال أربعة عقود، وهو لا يزال يحتل المرتبة الأولى في قائمة الرؤساء الأكثر شعبية لدى الفرنسيين، متجاوزاً بذلك الرئيسين الراحلين فرانسوا ميتران وشارل ديغول.
وتولى شيراك، الذي رحل عن 86 عاماً، رئاسة فرنسا لمدة 12 عاماً، ما بين 1995 و2007. كما شغل منصب رئيس الوزراء مرتين، وعمل في منصب رئاسة بلدية العاصمة الفرنسية باريس لمدة 18 عاماً، ما بين 1977 و1995.
داخلياً، اشتهر شيراك بدهائه السياسي ومرونته في إدارة دفة الحكم مع اليسار في صيغة تعايش استثنائية هشة لم تشهدها دولة أخرى غير فرنسا. فقد تقاسم السلطة مع ميتران عندما تولى منصب رئيس الوزراء في عهده، ثم خلال فترة تعايش ثانية بين اليمين واليسار كان فيها رئيساً للدولة، بينما تولى فيها الاشتراكي ليونيل جوسبان منصب رئيس الوزراء.
ولعل إنجاز شيراك الأساسي تمثل في تزعمه لليمين الفرنسي التقليدي لعقود طويلة. فقد كان شيراك دينامو التجديد في صفوف اليمين الديغولي وأحزاب الوسط، وبذل جهوداً ليعيد رصّ صفوفه ليتلاءم مع التطورات السياسية في سبعينيات القرن الماضي ويكون في مستوى التحديات الكبيرة التي يمثلها اليسار الشيوعي والاشتراكي.
وأسس شيراك في عام 1976 حزب "التجمع من أجل الجمهورية" الذي تحول بسرعة إلى رأس حربة اليمين الفرنسي. ولاحقاً قام بتأسيس حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" في عام 2002، والذي استولى عليه لاحقاً الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وغير اسمه في العام 2015 ليتحول إلى حزب "الجمهوريون".
وتحول ساركوزي إلى ما يمكن وصفه بـ"عقدة نفسية" بالنسبة لشيراك بعد أن خانه عام 1995، وساند رئيس الوزراء إدوار بالادور في الانتخابات الرئاسية. وراهن ساركوزي وقتها على بالادور بسبب استطلاعات الرأي التي كانت تتوقع فوزه في الرئاسة، غير أن شيراك فاز في النهاية بولاية ثانية، وأذاق ساركوزي الأمرين انتقاماً منه، مستبعداً إياه من أجهزة الحزب لمدة أربع سنوات.
كذلك فإن ولاية شيراك الثانية شهدت أخطر أزمة اجتماعية في نوفمبر/تشرين الثاني 2005، حين اندلعت الاضطرابات وأعمال العنف في ضواحي باريس التي تقطنها غالبية من المسلمين العرب والأفارقة إثر مقتل شابين صعقاً بالكهرباء بينما كانا يحاولان الهرب من دورية للشرطة. واضطرت السلطات حينها إلى فرض حالة الطوارئ وحظر التجول في 22 منطقة لاحتواء أعمال العنف التي استمرت ثلاثة أسابيع، في سابقة استثنائية منذ الخمسينيات. وأسفرت تلك الاضطرابات حينها عن 200 مليون يورو من الخسائر المادية وإحراق أكثر من 900 سيارة واعتقال حوالي ثلاثة آلاف شخص.
عربياً، تمتع شيراك بشعبية كبيرة بسبب مواقفه من القضايا العربية، وانتهاجه ما يسمى بـ"سياسة فرنسا العربية". وحتى الآن لا يزال مشهد شيراك، وهو يتحدى الجنود الإسرائيليين خلال زيارته للقدس المحتلة في 22 أكتوبر /تشرين الأول عام 1996 حاضراً في الأذهان. فقد انتفض شيراك بقوة ضد الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يرافقونه بعد خروجه من كنيسة القيامة، وهو في الطريق الى المسجد الأقصى وتدافع معهم لأنهم منعوه من التحدث إلى فلسطينيين كانوا يرغبون في مصافحته. وانتابت شيراك آنذاك نوبة غضب شديدة، الى حدّ أنه هدد بقطع زيارته إلى إسرائيل والعودة إلى باريس على الفور.
لكن شعبية شيراك عربياً وصلت الى الذروة بسبب موقفه من الحرب الأميركية على العراق في عام 2003. فقد طبع شيراك الأذهان بكونه الزعيم الأوروبي الوحيد الذي قاد جبهة المعارضة الدولية للغزو الأميركي للعراق، متحدياً الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، ما جعل العلاقات الفرنسية الأميركية تتعرض لأكبر هزة في تاريخها الحديث.
وخلافا لسلفه الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران الذي شارك في حرب الخليج الأولى إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية بكتيبة عسكرية فرنسية، كان شيراك ضد فكرة الحرب على العراق مبدئياً، ومقتنعاً بالنتائج الكارثية للتدخل الأميركي في العراق، وبعث بوزير خارجيته آنذاك دومينيك دوفيلبان إلى الأمم المتحدة ليخوض معركة دبلوماسية شرسة ضد دعاة الحرب على العراق، وألقى خطاباً وصف بأنه "تاريخي". ولم يتردد شيراك في توجيه انتقادات لاذعة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تساند التدخل الأميركي، واشتهر بعبارة لوم ساخرة وجهها إلى بولندا المتحمسة للحرب، قال فيها "لقد فوتت فرصة ممتازة للزوم الصمت".
وكان شيراك أيضا مهتماً كثيراً بلبنان، وتربطه علاقة صداقة مع رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وأصيب الرئيس الفرنسي السابق بصدمة كبيرة عندما تعرض الحريري للاغتيال وسط بيروت في 14 فبراير/شباط 2005 جعلته يضاعف جهوده في المحافل الدولية من أجل انهاء الوصاية السورية على لبنان، إلى أن تكللت مساعيه بالنجاح في صيف 2005.
واشتهر شيراك أيضاً ببعض الهفوات العنصرية، ولعل أشهرها كان ذلك التصريح الذي أثار جدلاً إعلامياً كبيراً عام 1991 الذي قال فيه "هنا روائح كريهة والكثير من الصخب" وذلك خلال زيارة إلى حي يقطنه المهاجرون العرب بالدائرة الثامنة عشرة في باريس. واعتبر المعلقون آنذاك أن شيراك كان يحاول إستمالة ناخبي اليمين المتطرف.