موسم إحياء الأنظمة البائدة في ليبيا

23 سبتمبر 2018
تظهر دعوات لعودة الحكم الملكي بشكل مستمر(محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -
لا يزال القصر الملكي وباب العزيزية، وسط العاصمة الليبية طرابلس، شاهدين على آثار فترتي حكم في هذه البلاد امتدت لستين سنة. لكن مساعي وجهوداً تجري حالياً لإعادة واحد منهما للحياة وسط استمرار الانسداد السياسي والفوضى الأمنية. آخر تلك الدعوات جاءت من محمد الحسن الرضا السنوسي، والذي يرى أنه وريث منصب والده السياسي كولي لعهد عرش ملك ليبيا السابق إدريس السنوسي. وأعلن، في بيان نشره ليل الأربعاء الماضي، أنه مستعد للقبول بالعودة للحكم في ليبيا "إذا اختار الشعب الليبي دستور المملكة الليبية لعام 1951"، معتبراً أن دستور الملكية "سيكفل الحقوق المدنية والسياسية الواسعة بموجب قوانين أقرتها الدولة الليبية المستقلة"، مشيراً إلى أنه سيتيح للبلاد "أساساً متيناً لبداية جديدة"، وسيوفر "الآليات الموحدة اللازمة لاستعادة الاستقرار والوحدة الوطنية والهوية الليبية"، من بينها مجلس نيابي يستطيع تعديل الدستور ليتماشى مع الواقع الحالي.

اللافت في حماسة الرضا للعودة أنها ظهرت بعد فشل الأطراف في الاتفاق على تنفيذ اتفاق الصخيرات الموقع في العام 2015، كما أنه جاء وسط حديث متزايد عن انهيار مرجح لاتفاق باريس وإمكانية توسع رقعة القتال، الذي طاول طرابلس أخيراً. لكن السؤال الذي لا يزال قائماً هو: من يقف وراء رموز أنظمة الحكم السابقة، نظام معمر القذافي، والحكم الملكي؟

إن العودة إلى خيار الملكية في ليبيا ليس توجهاً جديداً، بل كان قائماً منذ العام 2011، وجرت محاولات للانقلاب على محمد الرضا، بصفته وريثاً للعرش من قبل ابن عمه الزبير السنوسي، عندما أعلن، في يونيو/ حزيران 2013، عن إنشاء إقليم برقة الاتحادي الفيدرالي، أعقبه بأشهر الإعلان عن حكومة فيدرالية شرق البلاد. وإثر فشل مساعي الزبير، نشط، في السنوات التالية، تيار سياسي يعرف باسم "حراك العودة للشرعية الدستورية"، ونظم طيف قبلي واسع في شرق البلاد مؤتمراً، في ديسمبر/ كانون الأول 2017، أعلن المجتمعون فيه أن "الأمير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي هو الوريث الشرعي دستورياً ليكون ملكاً على البلاد"، مطالبين بضرورة مباشرة مسؤولياته والاضطلاع بمهامه طبقاً لنصوص مواد الدستور الملكي. وتم بعد ذلك تنظيم ملتقيات في أكثر من مدينة، آخرها في مدينة غريان، في إبريل/ نيسان الماضي، الذي حمل شعار "مؤتمر تفعيل دستور الاستقلال وعودة الملكية الدستورية". وعلى الرغم من ذلك، إلا أن ارتكاز هذه الدعوات على التاريخ وحجة الشرعية الدستورية جعلا منها فقاعة محدودة الأثر لم تكتسب زخماً يجعل منها قوة سياسية فعالة كأحد البدائل والخيارات الجادة لمستقبل البلاد.

وإن بدا أن الشرق الليبي هو الحاضن الأبرز لعودة الحكم الملكي، إلا أن أطرافاً أخرى لم تكن بعيدة عن محاولات استثماره. فأحد أبرز قادة الفصائل المسلحة في طرابلس، وهو قائد "لواء ثوار طرابلس"، هيثم التاجوري، تبنى دعم "حراك العودة للشرعية الدستورية"، منتصف العام 2016، ورسم أتباعه شعارات "الحراك" على جدران مقراته في طرابلس. وسربت صحيفة "لابريس" التونسية، الأسبوع الماضي، موافقة رئيس حكومة الوفاق الليبية، فائز السراج، على مساعٍ أوروبية لدعم إعادة الملكية إلى الحكم في ليبيا. ورغم تأكيد الرضا المتكرر قبوله بالعودة للحكم شرط "طلب الشعب الليبي"، إلا أن مراقبين لا يرون أنه يتحرك من دون دعم أو مشورة، أو بالأصح ضوء أخضر من دول كبرى منخرطة في الشأن الليبي، كبريطانيا مثلاً، التي يقيم فيها منذ سقوط الحكم الملكي على يد معمر القذافي في العام 1969، ليبدو الرضا كأنه خيار احتياطي لدى فاعلين دوليين ومحليين في حال انهيار كل محاولات رأب الصدع واحتواء الأزمة، باللجوء إلى دستور ليبيا السابق الذي لم يسقطه القذافي، بل عطله في إعلان زوارة في 1975. كما أن إعادة الاعتراف الدولي به يمكن إسنادها إلى اعتراف الأمم المتحدة به دستوراً لليبيا في 1951.

وإن بقي حراك الملكية ومحاولات عودتها هادئاً ولا تواجهه معارضة، فإن محاولات إعادة نظام القذافي إلى واجهة المشهد، طيلة السنوات الماضية، يواجهها رفض من قبل بعض الشرائح، وخصوصاً أن حقبة القذافي الدكتاتورية حديثة العهد ولا تزال قريبة من ذاكرة الليبيين. ويعتقد طيف كبير من الليبيين أن أنصار القذافي أكثر ميلاً لمعسكر قائد قوات برلمان طبرق، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وحلفائه السياسيين، ربما للصداقة القديمة التي تجمع قائدهم بحفتر، وربما أيضاً للطابع العسكري الذي يجمع الرجلين. لكن الغريب في الأمر أن معظم، بل وأهم رموز حكم القذافي هم في قبضة معارضيه في طرابلس، إذ لا يزالون يقبعون في السجون، مثل صهر القذافي وصندوقه الأمني الأسود، عبد الله السنوسي، وآخر رئيس وزراء، البغدادي المحمودي، وآخر رئيس لجهاز الاستخبارات الخارجية، بوزيد دوردة، من دون أن يتمكنوا من الاستفادة منهم واستثمارهم لكسب ود قواعدهم الشعبية والقبلية بشكل كبير.

لكن حقيقة موقف قادة النظام المخلوع لم تظهر جلية حتى الآن، فبعضهم فضل السير في ركاب طرف بعينه، كما هو الحال مع محمد الزوي، آخر رئيس للبرلمان في عهد القذافي والمستشار السياسي لرئيس مجلس النواب في طبرق، بعد أيام من إطلاق سراحه من سجنه في الهضبة بطرابلس في يونيو/ حزيران 2016، وبعضهم نحا باتجاه تكوين تيار مستقل يناور بحسب الوضع السياسي، كما هو الحال مع أحمد قذاف الدم المقيم في القاهرة، الذي تتفاوت تصريحاته بين دعم طبرق وطرابلس. كما أن طيفاً آخر فضل الاقتراب من قادة سياسيين في طرابلس كما ظهر جلياً في لقاء عُقد في العاصمة السنغالية داكار، منتصف مايو/ أيار الماضي، عندما التقى، برعاية مؤسسة برازفيل، رئيس "حزب الوطن" عبد الحكيم بلحاج، وعضو مجلس الدولة الحالي ونائب رئيس المؤتمر الوطني سابقاً صالح المخزوم، مع عدد من رموز الصف الثاني في النظام السابق، مثل حسن مبروك الزنتاني، والدكتور محمد البرغوثي، والدكتور محمد المدني الحضيري.

ما من شك في أن غالبية، بل وأهم قادة الحكم السابق، يقبعون في سجون طرابلس، ما يعني أنهم في قبضة طرف رئيسي في الصراع الحالي، لكن تغير الواجهات السياسية في طرابلس، من المؤتمر الوطني إلى مجلس الدولة وحكومة الوفاق حالياً، حد من الاستفادة بشكل كبير من هؤلاء الرموز، ومدى تأثيرهم في قواعدهم الشعبية والقبلية، فيما أتيح لحفتر وحلفائه في مجلس النواب الاستفادة منهم بشكل كبير، وهو ما ظهر في لقاء قادة النظام السابق في بنغازي، الواقعة تحت سيطرة حفتر، في مايو الماضي، بمشاركة رموز بارزين، مثل الطيب الصافي ومحمد الزوي، إذ أعلنوا فيه بكل صراحة دعمهم وولاءهم لحفتر وعملياته العسكرية. كما أن ضباطاً بارزين من النظام السابق، مثل العقيد محمد بن نايل، والعميد ونيس بوخمادة، هم من أبرز قادة قواته. لكن قرار فائز السراج، الإثنين الماضي، بشأن ضرورة "إخلاء سبيل المحتجزين في السجون الليبية" قد يعكس سعيه أيضاً للاقتراب والاستفادة من رموز النظام السابق، الذين يبدو أن القرار بصيغته العمومية يشملهم، ولا سيما أنه لم تصدر منه أي مواقف مضادة لمساعي أنصار النظام السابق.

وإزاء غموض أو تشتت مواقف رموز حكم القذافي، يبدو أن سيف الإسلام، نجل القذافي وأبرز رجالات عهده، يفضل العمل خلف الكواليس. فمنذ أن قبضت عليه مليشيات الزنتان، في صحراء ليبيا أواخر 2011، أثيرت أسئلة حول شكل احتجازه وإمكانية عقده صفقات مع محتجزيه في الزنتان الذين رفضوا تسليمه لسلطات طرابلس لمحاكمته، بل ونقضوا حكم الإعدام الصادر بحقه في يوليو/ تموز 2015، ليعلنوا في يونيو/ حزيران العام الماضي، عن إطلاق سراحه، كونه مشمولاً بقرار العفو العام الصادر عن مجلس النواب في طبرق. وفي حين لا يعرف أين يختبئ حالياً، إن كان داخل ليبيا أو في استضافة دول لا تزال تكن احتراماً لوالده، فإن تصريحات مقربين منه، مثل أيمن بوراس وباسم الصول، تظهر رغبته بالانخراط في الشأن السياسي، وهو ما أكدته صحيفة "التايمز" البريطانية، موضحة أن جهوداً تجري لإدماج سيف الإسلام وإخوته في الحياة السياسية، وذلك عبر مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بإعادة النظر في مذكرة اعتقال سيف الإسلام. وعلى الرغم من أن سيف الإسلام نفى، في تصريحات على لسان آمر "كتيبة أبو بكر الصديق"، الذي كان يشرف على احتجازه في الزنتان، تمثيل بوراس والصول له، إلا أنه لم ينف نيته الترشح للانتخابات المقبلة والعودة للحياة السياسية، من دون أن يحدد ميله لأحد الأطراف الحالية، أو ما إذا كان سيتحرك وفق رؤية خاصة به. إلا أن نيله الحرية بسبب قانون العفو الصادر عن مجلس النواب قد يشي بعلاقته بطيف نيابي، وتحديداً الموالي لحفتر، وخصوصاً أن مصادر قد كشفت، لـ"العربي الجديد"، قبل أيام عن مساع مصرية إماراتية لإعادة سيف الإسلام القذافي لواجهة الأحداث، كأحد البدائل المقبولة للدفع بها إلى المشهد السياسي ولعب دور على الساحة، تحت سيطرة كاملة من تحالف القاهرة وأبوظبي.

المساهمون