مصر: مشاريع الجيش كلمة السر في الإطاحة بهلالي

03 سبتمبر 2019
تعرض هلالي (وسط) لهجوم إعلامي كبير (محمد الراعي/الأناضول)
+ الخط -

لم يتعرض أحد من الوزراء الذين عملوا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ صعوده إلى السلطة منتصف 2014، إلى هجوم وسائل الإعلام بلا هوادة أو دفاع من الحكومة وأجهزة النظام، إلا وزير واحد فقط تولّى حقيبة التربية والتعليم من سبتمبر/أيلول 2015 إلى فبراير/شباط 2017، هو الهلالي الشربيني الشربيني هلالي، الذي كان دوماً مثار سخرية واسعة من الرأي العام، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو الصحف وبرامج "التوك شو"، منذ توليه الوزارة خلفاً لوزير ضعيف آخر لم يترك بصمة هو محب الرافعي. وانتشرت الأنباء عن كونه ضعيف الشخصية وضعيفا في التعبير باللغة العربية السليمة عن أفكاره، وانتهاء بتحميله مسؤولية ظاهرة تسريب امتحانات الثانوية العامة، التي تبين فيما بعد أنه يمكن ضبطها فقط باتحاد جهود أمنية وعسكرية وحكومية.

في منتصف عام 2016 دخل هلالي معركة إدارية لم يخضها وزير قبله أو بعده ضد المدارس الدولية التي تدرّس مناهج أميركية وبريطانية للطلاب المصريين مقابل رسوم تعليمية ضخمة، يتم تحصيل بعضها بالعملات الأجنبية، ليتعرض هلالي إلى هجوم قاس وممنهج من وسائل الإعلام التي اتهمته بالعمل على إبعاد المستثمرين الجادين في مجال التعليم قبل الجامعي، وحرمان شريحة "عريضة" من الطلاب المصريين أبناء القادرين من تلقي تعليم متميز بالنسبة لأقرانهم. وآنذاك كانت بعض قيادات وزارة التعليم المقربين لهلالي يتهمون وسائل الإعلام بخدمة مصالح رجال الأعمال أصحاب هذه المدارس، ولم تهدأ المواجهة بين الوزارة وتحالف المدارس الدولية إلا برحيله واختيار الوزير الحالي طارق شوقي بدلاً منه، وهو المعروف بمساندته التعليم الخاص، كونه أستاذاً في الجامعة الأميركية وحاصلاً على درجاته العلمية من الخارج.

لكن وثائق حكومية حصلت عليها "العربي الجديد" أخيراً، كشفت معالم رواية أخرى لظروف رحيل وزير التعليم السابق، الذي عاد الآن إلى وظيفته كأستاذ تخطيط تربوي متفرغ في جامعة المنصورة، وأوضحت أن رحيله كان مرتبطاً بشكل مباشر بعدم تعامله بإيجابية مع دخول الجيش مجال التعليم وإنشاء المدارس الخاصة والدولية، ورفضه الترخيص لبعض المدارس الجديدة المملوكة مباشرة للجيش من دون تعديل شكلها القانوني.

بداية القصة كانت مع انطلاق العام الدراسي 2015-2016 الذي تولى هلالي معه مسؤولية الوزارة، عندما تلقت إدارة جنوب السويس التعليمية أوراق إشهار وبدء تشغيل مدرسة دولية جديدة أنشئت على طريق مصر السويس الصحراوي باسم "مدرسة بدر الدولية" وتبين أنها مخصصة لتدريس المناهج ذات الطبيعة الدولية، ومنشأة ومملوكة للقوات المسلحة، ممثلة في قيادة الجيش الثالث الميداني، كمدرسة خاصة.

بدأت المدرسة الجديدة عملها التجريبي في ذلك العام الدراسي من دون أن تحصل على أي ترخيص من إدارة جنوب السويس التعليمية، التي وقعت في حيرة من أمرها بين تفعيل القانون والقرارات الوزارية الخاصة بحرمان المدارس غير المرخصة من المناهج والامتحانات وغيرها من التسهيلات التي تحصل عليها باقي المدارس الخاصة المرخصة، وبين تجاهل الأمر وترك المدرسة تعمل لحين البت في مصيرها بين ديوان عام الوزارة في القاهرة ووزارة الدفاع.

مصادر مطلعة تواصلت معها "العربي الجديد" بعد حصولها على الأوراق الحكومية التي كشفت الأزمة، قالت إن هلالي فضّل في البداية توجيه أسئلة "هادئة" إلى وزير الدفاع عن طبيعة المدرسة الجديدة ومدى توافر النيّة لدى الجيش لتقنين أوضاعها، خصوصاً أن القرارات الوزارية المتتابعة منذ 1993 وحتى الآن تقصر ملكية المدارس الخاصة على الأفراد والجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح فقط، ما يعني حظر إنشاء مدارس تابعة لأي جهة عسكرية أو شرطية أو حتى حكومية غير وزارة التربية والتعليم، مما يعني أن إصرار الجيش على ملكية هذه المدرسة بمفرده من دون مشاركة من أي مستثمر سيضع الوزير في حرج شديد.

لم تعطِ وزارة الدفاع أي اهتمام بتساؤلات هلالي، واختارت قيادة الجيش عدداً من مديرات ومديري المدارس المعروفة في منطقة شرق القاهرة وتعاقدت معهم لتسيير شؤون المدرسة، وحددت مصاريف كانت تعتبر آنذاك، قبل عام ونيف من تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قياسية بالنسبة للدراسة في محافظة السويس، إذ كانت المصروفات تبدأ من 20 ألف جنيه (1200 دولار) لرياض الأطفال إلى 32 ألف جنيه (2000 دولار) في المرحلة الإعدادية، بالإضافة إلى مصاريف الكتب والملابس والانتقالات، وتم الإعلان عن تخفيض المصاريف بنسبة 25 في المائة لأبناء الضباط وأقاربهم حتى الدرجة الرابعة.

وإزاء هذا العصف المستمر بقواعد الوزارة التي من المفترض أن تكون المشرفة على كل المدارس في مصر، بدأ هلالي في مايو/أيار 2016 استخدام سلطاته للتضييق على إدارة المدرسة من دون التهديد بوقف الدراسة فيها، فاستغل ارتكاب بعض المدارس الدولية الأخرى مخالفات في تحصيل المصاريف ووجّه إنذاراً لمدرسة بدر الدولية برفقة تلك المدارس، وهدد بوقف الدراسة فيها جميعاً أو وضعها تحت الإشراف المالي والإداري، إذا لم يتم توفيق أوضاع المدرسة بناء على القرارات الوزارية سابقة الصدور، أي أن ينشئ الجيش الثالث الميداني جمعية أهلية أو يتعاقد مع واحدة لتملك المدرسة من خلالها، أو أن تصبح أموال إنشاء المدرسة مملوكة باسم شخص أو أكثر.


وعلى الرغم من بساطة الحل من الناحية الإدارية والقانونية البحتة، إلا أن الجيش رفض الاستجابة لضغوط هلالي، وأبلغ الوزارة بأنه سيمضي في إنشاء مدارس دولية أخرى لتوفير تعليم جيد ورخيص نسبياً لأبناء القوات المسلحة وتحقيق أرباح أيضاً، وتم الإبلاغ عبر وسطاء هم ضباط الجيش والمخابرات السابقون الذين يعملون في الوزارة كمساعدين للوزير أو مسؤولين عن أعمال إدارية، وعلى رأسهم اللواء حسام أبو المجد رئيس قطاع مكتب الوزير آنذاك، والذي كان يشغل قبل انتدابه إلى الوزارة في عام 2010 منصب وكيل جهاز المخابرات العامة.

ومع بداية العام الدراسي التالي، تكررت المناوشات نفسها بين الطرفين إلى الحد الذي دفع هلالي، في ديسمبر/كانون الأول 2016، إلى اتخاذ خطوة أكثر جرأة، على الرغم من أنها تبقى في إطار رغبته الأساسية في عدم التصادم، وتوجهاته الأكيدة بعدم عرقلة أهداف النظام الحاكم في تضخيم اقتصاد وأرباح الجيش، إذ أرسل خطاباً رسمياً إلى إدارة الفتوى التابعة لمجلس الدولة المختصة بقضايا وزارة التربية والتعليم لاستطلاع الرأي القانوني في الترخيص لمدرسة بدر التي كانت بصدد تغيير اسمها إلى اسمها الحالي وهو "سانت فاتيما بدر الدولية".

أوضحت المصادر أن إرسال هذا الخطاب كان بمثابة القشة التي أنهت عهد هلالي عملياً، إذ شكاه وزير الدفاع صدقي صبحي إلى السيسي شخصياً باعتباره "موظفاً بيروقراطياً لا يمكن التعامل معه"، وتحدّث "أفراد من دائرة السيسي" إلى مجلس الدولة بضرورة تعطيل الفصل في طلب هلالي لحين تحديد مصيره من البقاء في الوزارة، لتتم الإطاحة به بعد أقل من شهرين ضمن تعديل وزاري شمل أيضاً وزراء التنمية المحلية والتخطيط والتعليم العالي والزراعة والنقل والتموين وشؤون مجلس النواب.

وكشفت الوثائق أن الوزير الجديد طارق شوقي سحب كل الطلبات الخاصة بتوفيق أوضاع المدرسة وتوقف عن توجيه الإنذارات لها، بما يضمن استمرار عملها حتى الآن بنفس نمط ملكيتها غير القانوني وإدارتها غير المرخصة وفقاً لقواعد التعليم الخاص، مع استمرار زيادة مصروفاتها لتصل حالياً إلى متوسط يتعدى 50 ألف جنيه.

وشهد عهد السيسي توسعاً غير مسبوق للجيش في الحياة الاقتصادية المصرية اتخذ عدة صور، كان اقتحام مجال التعليم الخاص والدولي من أحدثها، بينما أكثرها انتشاراً تخصيص مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية والساحلية لوزارة الدفاع وهيئاتها المختلفة لأغراض شتى كلها ربحية، وإنشاء المشاريع الاستثمارية أو السياحية أو العقارية للجيش ممثلاً في هيئاته المختلفة التي تنخرط في كل الأسواق تقريباً، بدءاً من الإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي مروراً ببيع الغاز والبنزين والسلع الاستهلاكية بالتجزئة وصولاً إلى بيع البنزين والغاز ومزاحمة وزارة البترول في إدارة بعض المشاريع.

ولا تمارس أي سلطة الرقابة الإدارية أو المالية على تصرفات الجيش وأجهزته، على الرغم من دخوله، نظرياً، ضمن الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات. وسبق أن نشرت "العربي الجديد" في 5 يناير/كانون الثاني 2018 تفاصيل الصدام بين الجيش والمستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، بسبب إقدامه على تفعيل هذا الدور الرقابي إزاء صندوق "تحيا مصر" الذي أنشأه السيسي في يونيو/حزيران 2014 وأوكل مهمة الإشراف عليه لهيئة الشؤون المالية التابعة لوزير الدفاع، التي رفضت بشكل قاطع السماح لموظفي الجهاز المركزي بذلك أسوة بمنعهم الاطلاع على أي مستندات تخص مشاريع أجهزة الجيش.

ويعزز هذا الواقع قانون التعاقدات الحكومية الذي أصدره السيسي العام الماضي متضمناً السماح لكل أجهزة الجيش والإنتاج الحربي والداخلية أيضاً، بإبرام عقود المقاولات والخدمات والاستيراد بطريق المناقصة المحدودة أو المناقصة على مرحلتين أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر من دون اتّباع المناقصات أو المزايدات العامة، تكريساً وتقنيناً لوضع غير دستوري قائم على التمييز الإيجابي لتلك الجهات على باقي الوزارات والشركات بدعوى "حماية الأمن القومي"، وهو المصطلح الذي يبلغ من الاتساع ما يمكّن كل جهة من تفسيره كما تشاء، وما يضمن لها أن تدرج تحته كل تعاقداتها، علماً أن المشروع يضمن "سرية استثنائية" لخطط البيع والشراء المندرجة تحت اعتبار "الأمن القومي" بعدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية.