كانت المعارضة اليسارية تشغل الخطوط الأولى في النقاش العام في البلد قبل تفشّي الوباء. ولأشهر طويلة، اصطف حولها أغلب الفرنسيين الذين ملأوا ساحات البلد تظاهراً واحتجاجاً على سياسات الحكومة بالغة الليبرالية. لكنّ الأمور بدأت تتغيّر مع تحوّل كورونا من مرض يعني أشخاصاً متفرقين إلى وباء يعني دولة بأكملها. راح اليسار يميل إلى حذرٍ وهدوء يأخذان في أغلب الأوقات شكل صمت يقطعه، من حين إلى آخر، تصريحٌ هنا ومقالٌ هناك. وعلى الرغم من تشظي اليسار، وصعوبة الحديث عن جسد سياسي واحد، تبقى التشكيلات اليسارية، على اختلافاتها، مشتركةً نسبياً في هذا الصمت. فالمواقف الرسمية أو الطلعات الإعلامية تكاد تُعدّ على الأصابع، من "الحزب الاشتراكي" إلى حزب "الخضر"، مروراً بـ"الحزب الشيوعي" وحركتي "جينيراسيون" و"بلاس بوبليك". وعلى المرء، إذا ما أراد الاطلاع على رأي هذا الحزب أو ذاك في قضية ما، أن يبذل جهداً ليعثر على موقف منشور في حوار أو مختصَرٍ بتغريدة على "تويتر".
وحده حزب "فرنسا الأبية"، من أقصى اليسار، يشارك بشكل شبه يومي في النقاش السياسي حول الوباء وإدارته، وينقد بلا هوادة خيارات الحكومة وتقصيرها، مقترحاً حلولاً بديلة، على لسان مسؤوله الأول، جان لوك ميلانشون، النشط برلمانياً وكثيف الحضور إعلامياً، أو عبر نوّابه الذين لا يقلّون نشاطاً، مثل فرانسوا روفّان. كان "فرنسا الأبية" يشارك باقي أحزاب اليسار واليمين حذرهم في بداية وباء كورونا، ودعوتهم إلى "الوحدة" السياسية وعدم وضع العصي في عجلات حكومة تواجه أسوأ أزمة تعرفها البلاد منذ قرن، على حدّ تعبير الرئيس إيمانويل ماكرون. لكن الحزب اليساري الراديكالي سرعان ما خرج من الصمت إلى النقد العلني، حاله في هذا حال "الجمهوريون" اليميني. وقد برّر "فرنسا الأبية" هذا التغيير، على لسان ميلانشون، بضرورة القيام بدوره في "خدمة المصلحة العامة" عبر ممارسة العمل المعارض، وضرورة تجنب الوقوع في "صمت متواطئ" مع حكومة لا تبدي الكفاءة اللازمة لإدارة الملف.
لكن الحزب "الاشتراكي" مثلاً، لم يتجاوز هذه المقاربة للنشاط السياسي خلال فترة الوباء. ولم يحِد الحزب حتى الآن عن الخط الذي رسمته تصريحات أمينه العام، أوليفييه فور، نهاية الشهر الماضي، عندما اعترف بالصعوبات الكبرى التي تواجه أي حكومة في إدارة أزمة كهذه، قائلاً إنّ حزبه لا يطمح إلى الظهور بصورة الفريق الذي يعطي دروساً في حسن الإدارة. وبعكس "فرنسا الأبية"، اختار الاشتراكيون الاقتراحات الخافتة بدل إثارة الجدل، والإشارة بهدوء إلى الأخطاء بدلاً من إثارة الفضائح، ذاهبين حدّ التواصل مع الأغلبية الحاكمة برسائل خطية لإبداء رأيهم المعارض وحلولهم البديلة، بدل التصريح بها علناً، في مسعى، ربما، لإعفاء الفرنسيين المنهكين أصلاً بسبب الوباء والعزل، من جدل سياسيّ هم بغنى عنه. وإن كان "الاشتراكي" لا يسعى إلى "إضعاف الحكومة"، فإنه يذكّر، على لسان فور، بأنه يمارس على أكمل وجه مهمّته بـ"مراقبة ما تقوم به الحكومة"، إذ "لا يمكن فرض حجْر صحّي على الديمقراطية".
ينسحب هدوء النبرة الذي اختاره "الاشتراكي" على أغلب عُمداء المدن والبلدات المنتمين إلى ألوان يسارية، والذين لم يبرزوا منذ بداية الأزمة، باستثناء عمدة باريس الاشتراكية آن هيدالغو. وعلى العكس منهم، لم يتوانَ عددٌ ذو وجاهة من المسؤولين المحليين المنتمين إلى اليمين، مثل عمدة مدينة نيس كريستيان إستروزي، عن إثارة الجدل، ونقد الحكومة وتدابيرها أو المزاودة عليها، فارضين حظر تجول في مدنهم يذهب أبعد من العزل الذي تفرضه السلطة على البلاد منذ 17 مارس/آذار الماضي.
وإذ يحيل البعض صمت اليسار إلى قلّة الأوراق والحلول في يده، يرى آخرون في ذلك مؤشراً على المفارقة التي يواجهها في الظروف الحالية. إذ يجد اليساريون أنفسهم مضطرين إلى وضع بعض قيَمهم جانباً والقبول، في سبيل صدّ الوباء، بتدابير سياسية تحدّ من الحريّات والحقوق الفردية والاجتماعية التي يُعدّون أبرز المدافعين عنها. فهم إن قالوا بعدم المساس بأي من الحريات، في هذه الظروف، وجدوا أنفسهم وحيدين، في وقت يُجمع فيه أغلب الفرنسيين على ضرورة العزل وبعض الإجراءات التقييدية التي لا بدّ منها للحدّ من انتشار كورونا. وقد يكون الصمت، في حالة كهذه، الحلّ الأفضل إذا ما رغبوا في عدم مناقضة رؤاهم السياسية. أما اليمين، فإنّ ظروفاً كهذه تتناسب مع خطابه وقيمه المحافظة والرافعة من شأن الحماية والأمن.
صمت اليسار قد يُقرأ وفق فهم مختلف تماماً. أي بوصفه صمت الجذِل الذي يرى الوقائع وهي تثبت صوابية رؤيته. وبالفعل، فإن كان يمكن استخلاص عبر من الأزمة التي أحدثها وباء كورونا في فرنسا، فإنّ أول ما يتبادر إلى الذهن أهمية المؤسسات العامة، لا سيما الصحية منها، وأهمية نظامي الحماية والرعاية الاجتماعيين، إضافة إلى ضرورة اشتغال البلد على إنتاج حاجاته من المواد الأولية والمعدات والأغذية والأدوية، وعدم التصرف وفق تفكير ربحيّ يفضّل الإنتاج الرخيص وإن كان في الصين، على الإنتاج المحلي الذي قد يكلف أكثر. وهي ضرورة تتقاطع مع أخرى تتمثل في تبنّي رؤية سياسية بيئية أظهر وباء كورونا الحاجة القصوى إليها، ليس في فرنسا وحسب، بل في الكوكب كلّه. وهذه كلّها قيمٌ تدافع عنها أحزاب اليسار المختلفة.
ربما كان ممكناً، في هذا السياق، قراءة الإطلالة الأولى والوحيدة، منذ شهور، لمؤسس حركة "جينيراسيون"، بُنوا هامون، عبر مقال نشره قبل أيام في صحيفة "لوموند". وصبّ المرشح السابق للرئاسة عن الحزب الاشتراكي غضبه على حكومة انتظرت وباء كورونا لتفهم أهمية دعوات اليسار، منذ سنوات، إلى دعم المؤسسات العامة بدل البحث عن خصخصتها أو تخفيف ميزانيتها، وإلى استبدال "السيادة الصناعية" والفهم الرأسمالي للعمل بفهم بيئي اجتماعي، وإلى حماية الناس عبر تدابير اجتماعية لا تعاقب الفقير ومحدود الدخل على فقره ومحدودية دخله، بل تنهض بحاله. ويذكّر هامون بضرورة تحديد دخلٍ عام لكل الفرنسيين من شأنه حمايتهم من العواقب الاقتصادية للأزمات والعطالة من العمل أو قلّة فرصه، وهو مقترح كان قد شكّل العلامة الخاصة لحملته للانتخابات الرئاسية الأخيرة. هامون، الذي اعتزل الأضواء بعد خسارته السباق الرئاسي وقرّر الركون إلى "التفكير"، ينهي مقاله بعبارة للشاعر الألماني هولدرلين، يقول فيها إنه "حيث ينمو الخطر، ينمو أيضاً ما يمكنه الإنقاذ من هذا الخطر". فهل يكون اليسار، على صورة بُنوا هامون، قد اختار الصمت للتفكير في المرحلة التالية لأزمة كورونا، وفي ما يمكنه الإنقاذ من المخاطر التي تواجه فرنسا وقد تواجهها في الفترة المقبلة؟