مناسبة هذا الكلام، ليست فقط الانتخابات الفدرالية التي ستجريها كندا يوم الإثنين المقبل، والتي يتنافس فيها بشكل أساسي الحزب الليبرالي بزعامة رئيس الوزراء جاستن ترودو، والمحافظون بزعامة أندرو شير، والحزب الديمقراطي الجديد الذي يقوده اليوم جاغميت سينغ. يضاف إلى هذه الأحزاب الثلاثة، "الخضر" بزعامة إليزابيث ماي، وهي أول نائب عن هذا الحزب في البرلمان، و"الكتلة الكيبيكية" بقيادة إيف فرانسوا بلانشي. هذه الانتخابات، قد لا تشكّل، في نهاية المطاف، اختباراً لمدى تغلغل موجة اليمين المتطرف، التي تعصف بالعالم، والتي تمثّلها "الترامبية" بأوضح صورة، في كندا، بقدر ما هي، إلى حدّ بعيد، استفتاءٌ على شخص ترودو نفسه، وكاريزميته التي كانت عاملاً أساسياً في وصوله للحكم في 2015، وتجربته في الحكم، التي جاءت مخيبة للآمال بالنسبة للكثير من الكنديين.
وعلى الرغم كذلك من أهمية الاستفتاء على ترودو نفسه خلال الانتخابات الحالية، فإن اختيارات الكنديين لطالما ارتبطت ببرامج الأحزاب، لا بالأشخاص، فيما لا يفتح النظام الانتخابي، الأقرب إلى الانتخابات البريطانية، المجال كثيراً لحصول ما يسمى بالانتخابات التمهيدية (primaries)، أو التجمّعات (caucus)، أو للمال السياسي وجمع التبرعات، وحتى لمراضاة اللوبيات. هذه الميزة لا تنسحب في المقابل على اختيارات اللوبيات، ومنها اليهودية، والعمالية، والانفصالية (كيبيك)، على سبيل المثال لا الحصر. ويرى منتقدو هذا النظام، حتى من الكنديين، أنه يأتي بزعمائهم "من خلال مناظرات معلبة، ومناورات في الغرف المغلقة، وتصويت عالي المركزية" (صحيفة تورنتو سان -2012).
وتستمر الحملات الانتخابية في كندا بين 36 و50 يوماً فقط (41 يوماً في الدورة الحالية، وبدأت في 11 سبتمبر/أيلول الماضي)، تتخللها مناظرتان، واحدة باللغة الفرنسية، وأخرى بالإنكليزية، وهي تتسم بالتواضع لدرجة "التقشف"، خصوصاً إذا ما قورنت بالجلبة الأميركية في معركة الرئاسيات. ويصبح رئيساً للوزراء زعيم الحزب الذي يحظى بغالبية في البرلمان (أعضاء مجلس العموم)، أو من بإمكانه بناء ائتلاف لتشكيل أغلبية في البرلمان، في حال تعادُل حزبين في عدد الأصوات.
وفي السياق، وجّهت رابطة "يونيفور" (أكبر اتحاد للقطاع الخاص في كندا) أعضاءها لعدم التصويت للمحافظين، ودعا رئيسها جيري دياس رئيس الوزراء جاستن ترودو إلى مؤتمر النقابة الأخير، ما اعتُبر دعماً له. لكن "يونيفور" ستدعم مرشحين عن "الديمقراطي الجديد" في بعض المناطق التي ترى فيها خطراً بوصول المحافظين. من جهته، استقبل "الاتحاد الكندي للقطاع العام" زعيم الديمقراطي الجديد جاغمت سينغ في مؤتمره النصف سنوي خلال الشهر الحالي، وصوّت أعضاؤه لدعمه.
مكانٌ لليمين المتطرف؟
يتبادر للوهلة الأولى اليوم لدى الحديث عن اليمين المتطرف في كندا اسم ماكسيم برنييه، الملقب بـ"ترامب كندا"، مؤسس حزب الشعب الكندي في العام 2018. لم تكن ولادة هذا الحزب سوى ثمرة خيبة أمل برنييه، بعد خسارته رئاسة حزب المحافظين لصالح شير، علماً أن شير نفسه جاء كأحد خيارين بين السيئ والأسوأ بالنسبة للحزب. وهنا، استطراداً، تحضر ما توصف بأزمة قيادات داخل "المحافظين" الكندي، بدأت مع زعيمه السابق ستيفن هاربر، الذي يرى منتقدوه، خصوصاً من غير "المحافظين" داخل الحزب، أنه صنع "ماركة" مسجلة باسمه خلال سنوات حكمه (دورتين)، أفقدت الحزب مكانته، منتهجاً سياسة خارجية "صقورية"، وداخلية متشددة، مع إقرار قوانين أمنية أكثر صرامة، والسعي للابتعاد عن استقبال اللاجئين، كما اشتهر بوعده تحويل كندا إلى دولة عظمى في مجال الطاقة، رابطاً ازدهارها باستخراج الموارد الطبيعية. وكان أساس حملته الأولى في 2006 توسعة رمال ألبرتا الزفتية، وعملية استخراج النفط منها، ما اعتُبر مساً بخطوط حمراء كندية مرتبطة بأولوية البيئة كاهتمام شعبي.
وبالعودة إلى برنييه، الذي لا يبدو حتى هذه اللحظة سوى فقاعة غير قابلة للترجمة انتخابياً، فقد وعد في حال فوزه بـ"إنهاء التعددية الثقافية الرسمية في البلاد، والحفاظ على القيم والثقافة الكندية". وركز برنييه على مسألة الحدّ من الهجرة (تقليصها للنصف). ووجّه زعيم حزب الشعب سهامه إلى ترودو، متهماً إياه بانتهاج سياسة تعددية "متطرفة"، بعدما رفع الأخير نسبة المهاجرين المسموح لهم بدخول البلاد سنوياً إلى 1 في المائة من عدد السكان. واعتبر برنييه أنه يحق للمهاجرين الحفاظ على ثقافاتهم، من دون أن تكون مدعومة ببرامج حكومية أو من أموال دافعي الضرائب الكنديين. كما أكد أنه سيدعو إلى إعادة النظر بقانون التعددية الثقافية للعام 1988، الذي يلزم الحكومات الكندية بحماية التنوّع في البلاد.
كما وعد برنييه بتقليص الهجرة إلى بلاده بحدود 50 في المائة عن معدلها الحالي، أي "بين 100 ألف و150 ألف مهاجر سنوياً". وقال إن "أولئك عليهم تخطي امتحان قيم على مراحل للتأكد من سلاسة الاندماج"، ملوّحاً بإنهاء "لمّ الشمل"، ومعتبراً أن هدفه "كسر المحرمات" حول الهجرة. وبما أن 41 في المائة من المهاجرين يستقرون في تورونتو (أونتاريو) أو فانكوفر (بريتيش كولومبيا)، رأى أن ذلك يقف وراء أزمة السكن في هاتين المدينتين.
باختصار، لا يجد كلام برنييه صدى يذكر له في المجتمع الكندي، ولا في استطلاعات الرأي التي لا تعطيه أكثر من 1,4 في المائة من نوايا التصويت، فيما يَعِد حزب المحافظين، الذي كان تحت رئاسة هاربر قد لوّح ببعض التعديلات في نظام الهجرة، بالحفاظ على نسبة المهاجرين السنوية المعمول بها في عهد ترودو، مع سياسة أكثر ضبطاً للحدود. وعلى الرغم من قلّة خطره على الحزب الليبرالي، إلا أن حزب الشعب الكندي يهدد باقتطاع أصوات من المحافظين، الذي يهدده أيضاً حزب "الكتلة الكيبيكية" في مقاطعة كيبيك.
التطرف... خطر مستقبلي
في مقال له في صحيفة "ذا ستار" الكندية، يجيب الصحافي فرانك غرافز على سؤال "لماذا على الكنديين أن يخشوا من خطر الشعبوية؟". ويكتب في شهر يوليو/تموز الماضي "إننا نخلد مطمئنين إلى فكرة أننا نتمتع بالمناعة في وجه ما يجري في أوروبا وفي أميركا، على الرغم من أن قوى الشعبوية ستكون حاضرة خلال الانتخابات الفدرالية المقبلة، وأن كندا تتجه بالتوازي مع الولايات المتحدة إلى حرب طبقات وحرب رؤية". ويتطرق غرافز، في مقاله، حتى إلى الشعبوية اليسارية، مؤكداً أن أسباب أي من الشعبويتين موجود اليوم في كندا، وهي "فكرة أن هناك نخبة حاكمة فاسدة تثير ريبة الشعب والجمهور". النموذج الترامبي، يحضر بقوة في ذهن الصحافي الكندي، لافتاً إلى "طبقة وسطى بيضاء مشغولةٍ بدخلها السنوي ومستوى معيشتها، وأن أي تجويف لها، سيترك أثره على المستوى الاقتصادي، وعلى سعادة أميركا الشمالية ورفاهيتها".
ويحذر غرافز من أن الانتخابات في الدورة المقبلة "ستكون بكل تأكيد حرب طبقات، وحرب رؤية، لأن الشعبوية قد بدأت تتحوّل إلى مغناطيس يجذب الكنديين الأقل تعليماً، والذين يلاقون صعوبة في المضي قدماً مع اقتصاد العولمة، وهم بأغلبهم يميلون إلى الأفكار المحافظة، وما يؤجج حرب الرؤية لجهة أي بلد يريد الكنديون اليوم توريثه لأولادهم".
بهذا المفهوم، يعيد الكاتب خطر التطرف اليميني في كندا إلى فشل اقتصادات العولمة، التي تصيب شظاياها هذا البلد العضو في مجموعة السبعة، من دون ربطها بأي حوادث رافقت صعود ترامب في الولايات المتحدة، ونفّذها خصوصاً من يصفون أنفسهم بـ"النازيون الجديد" في كندا.
هكذا، تسير كندا بأمان في انتخابات فدرالية روتينية. فشل ترودو، "اليساري على طريقة طوني بلير" (رئيس الوزراء البريطاني الأسبق) كما بات يصفه منتقدوه، في إقرار قانون انتخابي جديد يعتمد على النسبية (رأى فيه خطراً على حزبه)، وفضيحة شركة "إس إن إل لافالان" الهندسية، (طرد مدعي عام رفض التدخل بقضية فساد مرتبطة بالشركة)، وتمسك الحكومة بمشاريع نفطية، كلها أفقدت رئيس الحكومة بريقه، وهو الذي وعد في بداية عهده بـ"مسارات مشمسة". ولكنه أمان قد يصمد... إلى حين.