حين اضطر الفلسطيني قبل 70 سنة، تحت وقع التطهير الصهيوني، للّجوء إلى لبنان، لم يتخيل أن تطول غربته، لتشمل أجيالاً ولدت وكبرت في البلد، مع إصرار "السياسي" و"الزعيم" و"البيك" و"الشيخ" و"السيد"، على حشرهم في الواقع البائس ذاته الذي يفرضه الاحتلال على أمل رحيل البقية منهم عن أرضهم، فيما السادة في لبنان يعللون منع العيش الكريم عنهم خلال العقود الماضية بحجة حق العودة. شماعة "حق العودة" التي أوصلت، بممارسات هدر الآدمية، فلسطينيي العراق إلى البرازيل، تُعد من أكبر خزعبلات وترهات سياسات "سادة الطوائف". فبعضهم، يريد إقناعنا بأنه أكثر حرصاً على فلسطينية الفلسطيني من نفسه. فيحبونه بانتهازية ونفاق متى كان "سلعة" في خطاب عرضه "بائساً" و"مقاوماً"، ومهاجراً إلى الشمال، ويمقتونه بتنميط صورته متى اقترب في اندماجه اللبناني القريب من اندماج مهاجري القرن الماضي ممن جُنسوا في لبنان.
وعليه، وبعقلية تُصر على فرض التهميش و"الغيتو"، يخاطب هؤلاء "السادة": نحن نهمشهم ونمنع اندماجهم، ونحيل حياتهم استحالة، مانعين إياهم العملَ في عشرات المهن، ولو تخرج منهم طبيب ومهندس عندنا أو في الخارج، ومانعين الحب بين فلسطيني ولبنانية، المفضي إلى زواج وإنجاب، بحرمان الطفل الحامل جينات فلسطينية جنسية أمه اللبنانية، و"نلعن سنسفيل" الفلسطينيين، بجعلهم "مشبوهين ضمناً"، كله لأجل مصلحته، و"حق العودة".
اللبناني المهاجر، الجار لأخيه الفلسطيني في استوكهولم وكوبنهاغن وبرلين، يعرف أنه يحق له، وبقية المهاجرين، ما لا يحق للفلسطيني في المشرق العربي. ففي أوروبا، حق لك أن تشارك في انتخابات بلدية بعد 3 سنوات إقامة، وجنسية بعد 4 إلى 8 سنوات، دون أن يصبح اللبناني أقل لبنانية أو الفلسطيني، ومن ولد من صلبه، ولو من أوروبية، أقل فلسطينية. ليس ما تقدم مطلب الفلسطيني في لبنان، بل أقله توقف أصحاب عقول "الغيتو"، المستغربين سابقاً امتلاك الفلسطيني أعلى الشهادات والمتجاهلين مساهمة نخبه المالية وغيرها في تاريخ لبنان الحديث، عن المزايدة عليه بانتهازية بأنه ليس حريصاً على حق العودة إن لم يكن مستسلماً وبائساً، أكثر من بؤس مدبرة منزل أجنبية مشطوبة إنسانيتها، وصامتاً عن هضم حقوقه في العيش الكريم التي ينالها مع اللبناني في "بلاد الأجانب".
فلنتخيل مثلاً أنه في المهاجر قرروا منع المهاجر اللبناني والفلسطيني العملَ في أبسط المهن، ووضع خريجي الجامعات خلف جدران الغيتوهات، ومنع الأوروبيات المتزوجات بهاتين الفئتين تحديداً منح الجنسية لأطفالهن، عدا قائمة طويلة تقارن بين سياسات هجرة أوروبية و"استضافة لبنان الإخوة الفلسطينيين"، الذين هرولوا قبل عقدين بـ"تحويشة العمر" لشراء عقار سكني في لبنان، قبل أن يصابوا بخيبة تمييز لم يواجهوها حتى في أوج تقدم الخطاب الشعبوي في ألمانيا. أيها السادة، علوم الاجتماع والسياسة تحذر من مخاطر التهميش والقهر والإصرار على شرعنة العنصرية والتمييز بحق مواطنين من آباء فلسطينيين وأمهات لبنانيات. فهل يفكر "سادة الطوائف" في النتائج؟