لجان التحقيق باغتيالات اليمن: مقبرة الحقيقة

22 ابريل 2020
خلال تشييع عمر في 1 يناير 2003(خالد فزاع/فرانس برس)
+ الخط -
"إذا تشتي (رغبت) تعجنها، لَجِّنها"، مقولة شعبية شهيرة اعتاد اليمنيون استخدامها كلما سمعوا عن تشكيل لجان رئاسية من أجل التحقيق في قضية سياسية ما. فلجان التحقيق لا تنشأ في اليمن إلا من أجل تضييع الوقت وطمس القضية والحقيقة. وكثيرة هي القضايا المفصلية التي غرقت في "مقابر" لجان التحقيق في التاريخ اليمني المعاصر المنظور، بداية من مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي (أكتوبر/ تشرين الأول 1977)، مروراً باغتيال الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي جار الله عمر (ديسمبر/ كانون الأول 2002)، وصولاً إلى مقتل العميد عدنان الحمّادي (ديسمبر 2019). وعلى الرغم من تكرار تشكيل لجان تحقيق في القضايا ذات الطابع السياسي، طوال العقود الماضية، إلا أنه لم يسجل توصل أيّ منها إلى إعلان الحقيقة، ولا تزال أوراق القضايا مفتوحة إلى اليوم.

إبراهيم الحمدي
اغتيل الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي في 11 أكتوبر 1977، بعد نحو ثلاث سنوات من تسلمه السلطة في العام 1974. منذ ذلك التاريخ، خرجت لجان كثيرة بحثاً عن الحقيقة بشأن مَنْ يقف وراء مقتله، وكيفية تنفيذه العملية، لا سيما بعدما جرت محاولة طمس الحقيقة عبر وضع جثة الحمدي وشقيقه عبد الله بجوار فتاتين فرنسيتين، تم قتلهما أيضاً، في محاولة لإعطاء الجريمة طابعاً جنائياً لا سياسياً، كما وتصوير ذلك الرمز الشعبي أمام الناس على هيئة تقتل "المِثال" أمامهم.

ويعد الرئيس السابق علي عبد الله صالح (الذي قُتل على يد الحوثيين في 4 ديسمبر 2017)، أحد المتهمين الرئيسيين بقتل الحمدي، إلى جانب رئيس هيئة الأركان وقتها أحمد حسين الغشمي (الذي خلف الحمدي عقب اغتياله). كما جرت محاولة لفتح القضية مجدداً في العام 2012، عقب الثورة الشبابية التي أطاحت صالح. كذلك شكلت جماعة الحوثيين (التي تحكم صنعاء والعديد من مناطق الشمال) لجنة تحقيق، خلصت في 2019 إلى أن أبرز القادة العسكريين الضالعين بجريمة الاغتيال هم "نائب القائد العام ورئيس هيئة الأركان وقتها المقدم أحمد الغشمي، وكذلك قائد لواء تعز الرائد علي عبد الله صالح"، فضلاً عن توجيه الاتهام إلى "الملحق العسكري السعودي بصنعاء العقيد صالح الهديان". لكن هذا التحقيق الأخير للحوثيين لا يمكن اعتباره سوى أنه أتى تماشياً مع حالة المعركة المستمرة التي تخوضها الجماعة ضد إرث صالح، حتى بعدما قامت بتصفيته.

وعلى عكس جريمة اغتيال الحمدي، التي لا تزال تأخذ حيزاً واسعاً من نقاشات اليمنيين كل فترة، فإنه لم يكن هناك اهتمام في البحث عمن تولى تصفية الغشمي (حكم من أكتوبر 1977 إلى يونيو/ حزيران 1978). واغتيل الغشمي بتفجير حقيبة مُفخخة داخل مكتبه، قيل يومها إنها أرسلت إليه من عدن. وأعقب ذلك وصول علي عبد الله صالح إلى واجهة الرئاسة اليمنية في 18 يوليو/ تموز 1978، واستمر في الحكم حتى يوم إبعاده عن الحكم، عقب ثورة الشباب في 27 فبراير/ شباط 2012.

جار الله عمر
وإذا كان وصول صالح للحكم قد وضع حداً لتصفية الرؤساء، فإن عهده شهد واحدة من أبرز جرائم الاغتيال السياسي التي أدت إلى تغيير واسع في المشهد العام برمّته. ففي 28 ديسمبر 2002، وبعدما أنهى القيادي الاشتراكي جار الله عمر، كلمته أمام المؤتمر العام لحزب الإصلاح في صنعاء، تعرض للاغتيال بإطلاق رصاصتين باتجاهه بينما كان يغادر المنصة عائداً إلى مقعده.

كان يبدو يومها أن رصاصات القاتل تهدف لاغتيال المشروع السياسي لجار الله عمر، الشخصية اليسارية التي كانت محل توافق بين جميع أطراف العمل السياسي اليمني المُعارض. وكان عمر حجر الزاوية في تأسيس "أحزاب اللقاء المشترك"، الذي ضمّ "التجمع اليمني للإصلاح، والحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي، وحزب الحق، والتجمع السبتمبري، واتحاد القوى الشعبية اليمنية". وقد عمدت تلك الأحزاب، وعلى رأسها الاشتراكي والتجمع اليمني للإصلاح، إلى إتمام تأسيس المشروع على الرغم من اغتيال "الأب الروحي" لـ"اللقاء المشترك".

من هنا أتت أسهم الاتهام باتجاه علي عبد الله صالح، فيما أمر الأخير بتأسيس لجنة تحقيق. لكن أحزاب المعارضة رفضتها، باعتبارها "لجنة جنائية" كما أرادها الرئيس اليمني بينما كان من المفترض، بحسب اعتقادهم، أن تكون لجنة تحقيق سياسية، فالجريمة التي حصلت سياسية بامتياز. وبالفعل ذهب مسار القضية بحسب ما أراده الرئيس الراحل، وتمّت محاكمة الجاني بوصف ما فعله جريمة جنائية. وفي صباح 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 تم إعدام الشخص الذي نفذ عملية الاغتيال، ويدعى جار الله السعواني، في باحة السجن المركزي في العاصمة صنعاء، ودُفنت على أثره أوراق القضية، وهو ما أدّى إلى اعتراضات واسعة، أبرزها من أسرة المجني عليه جار الله عمر وهيئة الادعاء الناطقة باسمها، التي أكدت أنه كان ينبغي الكشف عن الجهات الممولة والمحرّضة على الجريمة.

في هذا السياق، يقول الناشط اليمني عبد الواحد العوبلي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن أي جريمة ترتكب من المفروض أن هناك نيابة وقضاء للتعامل معها فوراً، والأمن الجنائي يأخذ إجراءاته، والطب الشرعي يقوم بمهامه، والنيابة تثبت كل ذلك بمحاضر، وتكون الشرطة العسكرية مثلاً موجودة، إذ كان المجني عليه عسكرياً. ويضيف العوبلي "لكن ما حدث أنه حصل تعطيل كامل لمؤسسات الدولة واستبدالها بلجان، تكون إجراءات إنشائها غير قانونية، ويحصل فيها تداخل للسلطات القضائية والتنفيذية، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تمييع كل القضايا، بينما تكون مهمة اللجنة، أو الإعلان عنها، امتصاص غضب الناس، والاتكال على عامل الوقت في نسيانهم للقضايا وانشغالهم بأخرى. والأهم من هذا كله، هو أن اللجان التي تشكل للتحقيق في جرائم القتل والاغتيال للقيادات السياسية والعسكرية، تهدف تحديداً لتمييع القضايا ودفنها حية".

العميد عدنان الحمادي
وفي هذا السياق، تبرز قضية قتل العميد عدنان الحمادي، قائد اللواء 35 مدرع، في ديسمبر 2019، والتي لا يزال النقاش بشأنها قائماً إلى اليوم، وعلى وجه الخصوص لدى أبناء منطقة تعز. الحمادي كان واحداً من القادة العسكريين الذين عملوا على مقاومة مد الحوثيين في المحافظة، ونجح في تحجيم سيطرتهم، حتى عندما كانوا في حالة تحالف مع قوّات الحرس الجمهوري، التي كانت تابعة لعلي عبد الله صالح قبل مقتله. ومنذ اللحظة الأولى لشيوع خبر تصفية الحمادي، جرى تشكيك في صحة الرواية المتداولة بشأن مقتله على يد شقيقه جلال، بعد خلاف بينهما. ورفضت أسرته دفنه قبل تشكيل لجنة تحقيق في القضية، وإعلان ملابسات الجريمة.

وأتت الإشكالية الأولى عقب تشكيل الرئيس عبد ربه منصور هادي للجنة تحقيق بعد الجريمة بأيام، إذ لم يلق أعضاء اللجنة قبولاً من بعض أفراد أسرة اللواء نفسه، كما ومن بعض أقارب الحمادي. وبعد مرور نحو 4 أشهر على  تصفية الحمادي، اختارت أسرته دفن جثمانه (في 20 مارس/ آذار الماضي)، بعدما طال انتظارها لنتائج التحقيقات، ليبدو أن دور لجنة التحقيق التي شكلت في هذه الجريمة لن يكون مختلفاً عن لجان التحقيق طوال العقود الماضية. وفي رأي مخالف لمسألة هيمنة البُعد السياسي على الجنائي في التحقيقات بجرائم الاغتيال اليمنية، يقول الباحث اليمني المقيم في فرنسا، مصطفى الجبزي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن مؤسسة الدولة، بحكم القانون، مُلزمة بأن تتخذ إجراءات التحقيق، لكن المشكلة أن التحقيقات غالباً لا تُتابع ولا تُحال إلى القضاء، ويتم إرجاء الخطوات اللازمة في البحث حول حقيقة ما حصل. وما يتم هو عملية "تمويت" القضايا بسبب عدم الوصول للفاعلين الأساسيين، خصوصاً عندما يكون الفاعلون هم الذين يمسكون بالقرار السياسي، وعليه لا تكون هناك متابعة للقضايا بسبب الإرادة السياسية.

ويتوقف الجبزي عند قضيتي الحمدي والحمّادي، قائلاً إنه في قضية اغتيال الرئيس اليمني قبل عقود، كانت إرادة الشعب يومها أقل قدرة من قوة القيادة السياسية، وغير قادرة على فرض صوتها على السلطة لإلزامها بمحاكمة القتلة، لكن الآن اختلف الأمر، إذ إن الحكومة اليمنية الشرعية هشة وأضعف، وفي حال وجود ضغط يمكن أن يثمر بالقبض على الجناة في جريمة الحمّادي. لكن في النهاية، يقول الجبزي، إن إجراء التحقيقات نوع من رفع المسؤولية وامتصاص غضب الناس، بمعنى "لقد أجرينا تحقيقاً وانتهى الأمر". وخلص إلى القول إن أي قضية اغتيال لها بعد سياسي، سوف تتوه، لأن السياسة تتغلب على البعد الجنائي أو القضائي.

المساهمون