وجاءت موافقة الوفد الحكومي خلال مفاوضات مع حركات الكفاح المسلّح في جوبا، والتي خرجت بترتيبات شاملة لتحقيق العدالة الانتقالية، تتضمن إلى جانب تسليم البشير، تسليم المطلوبين للمحكمة الدولية، وإنشاء محكمة خاصة داخلية، للتحقيق والمحاكمة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وكذلك إنشاء آليات خاصة بالمصالحات التقليدية، وآلية أخرى تختص باعتماد نهج الحقيقة والمصالحة الذي نفذ من قبل في جنوب أفريقيا، عقب انهيار نظام التفرقة العنصرية.
ولم تكن الحكومة الانتقالية، طيلة الأشهر الماضية، على قناعة تامة بتسليم البشير وبقية المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، هذا ما أكده رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بنفسه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قاطعاً بعدم تسليم البشير، وأن الأمر ليس مطروحا أصلاً، وأن الثقة متوفرة في القضاء السوداني والأجهزة العدلية لمحاكمته. وذهب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في الاتجاه ذاته خلال تصريحاته الصحافية. وحده النائب العام، تاج السر الحبر، رهن التسليم بنتائج المفاوضات الجارية مع الحركات المسلحة وبأطراف عدة، بمن فيهم الضحايا وأسرهم.
وتمسكت الحركات المسلّحة التي قاتلت نظام البشير في دارفور، خلال المفاوضات في جوبا، بموقف واحد هو تسليم البشير وثلاثة من رموز النظام السابق للمحكمة الجنائية، كشرط ضروري لتحقيق السلام، بينما رفض عبد الواحد محمد نور، زعيم حركة "تحرير السودان"، التي تحظي بشعبية أكبر في الإقليم خاصة في معسكرات النزوح واللجوء، مجرد الجلوس مع الحكومة ما لم تقم أولاً بتسليم المطلوبين كشرط مسبق. وحينما ذهب حمدوك لزيارة معسكرات النازحين في دارفور، استُقبل بلافتات عريضة تحثه على تسليم البشير، كما أُبلغ بواسطة قيادات النازحين بحتمية تنفيذ الشرط.
مع هذا الوضع، وجد الوفد الحكومي نفسه مضطراً قبل أيام للعودة إلى الخرطوم مع تعثر المفاوضات بسبب ذلك الشرط، لتبدأ في الخرطوم سلسلة من الاجتماعات الماراثونية قادها المكونان العسكري والمدني، كل على حدة، بحسب معلومات "العربي الجديد".
ووفقاً لمعلومات "العربي الجديد"، فقد توّجت تلك الاجتماعات باجتماع أوسع ضم مجلس الوزراء، ومجلس السيادة، وتحالف الحرية والتغيير، خرج بقرار الموافقة على مثول البشير أمام المحكمة الجنائية.
وأوضحت أن "القرار جاء بعد قناعة أن هذه الخطوة هي الطريق الوحيد لتحقيق السلام والمصالحة في دارفور، ومداواة جراح الحرب، واستجابة لصوت الضحايا، وتحقيقاً للعدالة التي رفعتها الثورة شعاراً"، وهو الموقف الذي أعلنه، أمس الثلاثاء، المتحدث الرسمي باسم الوفد الحكومة، محمد حسن التعايشي، في جوبا.
لكن كثيرين يرون أن الأشياء في جوهرها لا تتطابق مع الظاهر تماماً، مشيرين إلى رغبة المكون العسكري، الذي شوهت صورته دولياً ومحلياً، عقب فض اعتصام محيط قيادة الجيش العام الماضي، في تحسين صورته أمام الرأي العام الدولي، من أجل تحاشي أي ملاحقات قانونية دولية مستقبلية، وبالتالي نقض تعهدات سابقة، وأي تحد لمحاكمة البشير، حسب ما أشارت إليه مصادر عدّة.
البعض الآخر يربط خيوط اللعبة السياسية الحالية في السودان بعضها ببعض، فهناك من يرى وجود علاقة بين لقاء البرهان ونتنياهو، وموافقة الحكومة على تسليم البشير، لا سيما أن اللقاء رُتب بواسطة المحامي الإسرائيلي نيك كوفمان، الذي ينشط في محكمة الجنائية وموضوعاتها، طبقاً لما جاء في تقارير صحافية إسرائيلية.
لكن حسب مصادر أخرى، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن الربط بين لقاء البرهان ونتنياهو وقرار الحكومة ليس صحيحاً مئة بالمئة، لا سيما أن اجتماع الحكومة وتحالف "الحرية والتغيير" الذي أقر التسليم سبق لقاء عنتبي، وأن أوغندا الوسيط الرئيس في لقاء البرهان ونتنياهو، لديها تحفظ على تسليم البشير، وعرضت على الخرطوم في فترات سابقة إيواءه متحملة أي حرج مع المجتمع الدولي.
فرضية ثالثة تستبعد الربط بين الحدثين، هو وجود السفيرة السابقة في الخارجية السودانية، نجوى قدح الدم، ضمن من دبروا لقاء البرهان ونتنياهو، وهي من الشخصيات التي ساندت البشير ودافعت عنه في أوقات سابقة، وساعدت السودان على تحسين علاقته المتوترة مع كمبالا في سنوات سابقة، عدا عدم حماسة الجانب الإسرائيلي سلفاً للمحاكات الجنائية الدولية وموقفه من المحكمة، وهي تصورات لو جرى تطبيقها فإنها ستقود القادة الإسرائيليين لقفص الاتهام يوماً ما.
بعيداً عن ذلك، يرى أنصار البشير أن تسليمه سيفتح الباب واسعاً لمحكمات أخرى قد تشمل البرهان، الذي أشرف في سنوات الحرب في دارفور على كثير من العمليات العسكرية، كما لم يستبعدوا أن تشمل المحاكمات الدولية كذلك نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع. ومن غير المستبعد أن تكون هناك صفقة أخرى تمت لغض الطرف عن ذلك، رغم أن مقررات الاجتماع الثلاثي بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء و"الحرية والتغيير" أقرت تسليم أي شخص تطلبه المحكمة الجنائية الدولية.
في السياق، أكد الخبير الاستراتيجي عصام بطران، لـ"العربي الجديد"، أن كل المؤشرات تدل على وجود خلاف حاد بين المكون العسكري والمكون المدني على موضوع تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية، مع مؤشرات أخرى تدل على رفض الجيش محاكمة أي من رموزه خارج البلاد مهما كان منصبه، مشيراً إلى أن نتائج كل ذلك ظهرت عقب اجتماع مجلس الأمن والدفاع، الذي اجتمع للمرة الثانية في أقل من 48 ساعة، وهي حادثة يراها "شاذة ونادرة" لمجلس يفترض ألا يعقد اجتماعات إلا مرات قليلة خلال العام وفي قضايا طارئة.
وأوضح بطران أن "مغامرة البرهان بالموافقة على قرار تسليم البشير، ستفتح الباب أمام فتح ملفات أخرى قد تدين البرهان والمكون العسكري ككل دولياً على غرار حادثة فض الاعتصام"، قائلاً إنها "قد تجر كذلك رموز تحالف الحرية والتغيير، في ظل معلومات عن علمهم وموافقتهم على فض الاعتصام، خاصة مع إقرار الحكومة بعجز النظام القضائي عن إجراء محاكمات عادلة".