تركيا: مخاض الدستور المدني الأوّل في تاريخ الجمهورية

12 يناير 2016
يريد "العدالة والتنمية" التحوّل إلى النظام الرئاسي (خليل ساغيركايا/الأناضول)
+ الخط -


يبدو أن 2016 في تركيا، سيكون عام الدستور الجديد، مع التحركات التي يقوم بها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو في هذا السياق، إذ التقى قيادات كل من حزب "الشعب الجمهوري" (أكبر أحزاب المعارضة) وحزب "الحركية القومية" (يميني متطرف)، ثم التقى يوم الأربعاء الماضي، رئيس المجلس النيابي إسماعيل كهرمان، ليؤكد أن المهمة باتت عند رئاسة المجلس بعد تأمين الأرضية اللازمة لإعادة إحياء لجنة المصالحة الدستورية لمدة ستة أشهر، بتمثيل متساوٍ لكل الأحزاب المتواجدة في البرلمان.

لم تعرف الدولة التركية، على الرغم من سيطرة أتاتورك عليها منذ تأسيسها، نظاماً رئاسياً من الناحية الدستورية، كما لم تعرف أيضاً دستوراً وضعه المدنيون بشكل حر في تاريخها منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، سوى دستور 1921 والذي تكوّن من 23 مادة فضفاضة شارك في كتابتها العسكر وتتناسب مع ظروف تركيا خلال فترة "حرب الإنقاذ" (1919-1923) والذي يُعدّ استمراراً للدستور العثماني الأول أو القانون الأساسي 1876. وكانت أهم ميزاته أنه الدستور الأول الذي منح الحكم والسيادة بمطلقها إلى الأمة ممثلة بمجلس الأمة الذي يدير البلاد، من دون أن يحدد حتى نظام الحكم أو العاصمة.

تلاه دستور عام 1924 الذي يُعدّ انعكاساً حقيقياً لنتائج "حرب الإنقاذ" ومعاهدة لوزان. وتعرّض للكثير من التعديلات المتلاحقة، فكان الدستور الذي أعلن الجمهورية التركية وألغى السلطنة، قبل أن يلغي الخلافة أيضاً، وحدّد اللغة التركية لغة رسمية وحيدة والعاصمة أنقرة، ليتم إزالة مادة "الإسلام هو دين الدولة" منه عام 1928. لكن لم توضع العلمانية بنداً فيه لغاية عام 1937 كجزء من المبادئ الأتاتوركية الستة الداعية لبناء الجمهورية القومية التركية العلمانية المركزية الثورية الحديثة. ولم يعتمد الدستور "التعددية" بل ما أطلق عليه "ديمقراطية الأغلبية" في ظل حكم الحزب الواحد وهو حزب "الشعوب الجمهوري"، الذي أسسه أتاتورك، بنظام برلماني.

وتم إدخال تعديلات على الدستور في عام 1946 وجرى السماح بالتعددية الحزبية، حتى جاء انقلاب عام 1960 بقيادة العسكر الذين وضعوا دستور 1962، والذي كان الوحيد بنظام برلماني بحجرتين، شيوخ ونواب، ليَليه انقلاب العسكر مجدداً عام 1980 والذي أنتج دستور 1982 بنظام برلماني وبمقدمة تعتمد مبادئ أتاتورك.

وتبدو أمام تركيا اليوم مهمة كتابة دستور مدني جديد، يستبدل الدستور الحالي أو دستور عام 1982، وهي مهمة لا يختلف عليها اثنان في تركيا من ناحية المبدأ، بل لا يخلو أي برنامج انتخابي لأي حزب من ضرورة العمل على الدستور الجديد. وعلى الرغم من أن لجنة المصالحة الدستورية التي عملت لما يقارب عامين بين 2011 و2013 استطاعت التوافق على تغيير 60 مادة من الدستور الحالي، إلا أنه حتى هذه التوافقات لم ترَ النور واستمرت الخلافات.

وبينما يحاول حزب "العدالة والتنمية" استغلال الانتصار الكبير الذي حققه في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وتمزّق المعارضة لتمرير مشروعه الأهم بالتحوّل إلى النظام الرئاسي، يبدو أن إحياء مشروع الدستور الجديد يُعدّ جزءاً من خطة استراتيجية لإنهاء تمرد حزب "العمال الكردستاني" من دون الحاجة إلى التفاوض معه، خصوصاً بعد أن فشلت محاولة الأخير بتحريض الأكراد على التمرّد على الدولة التركية.

وعلمت "العربي الجديد" أن الخطة الجديدة التي يجري العمل عليها، هي الأكثر شمولاً في تاريخ الصراع بين أنقرة و"العمال الكردستاني"، إذ تضم إضافة إلى توجيه ضربات عسكرية لـ"الكردستاني" داخل وخارج الأراضي التركية، وتمديد التواجد العسكري التركي نحو شمال العراق كما حدث أخيراً في الموصل، أبعاداً اجتماعية واقتصادية، تعمل على دعم المواطنين المتضررين من الاشتباكات الأخيرة في المدن، خصوصاً أن عمليات "الكردستاني" فيها لم تلقَ دعماً كبيراً.

وكذلك تقوم الخطة على التوجّه نحو كتابة دستور جديد يتم من خلاله تجاوز تهميش الدساتير السابقة للأكراد، من دون الاضطرار إلى التفاوض بشكل مباشر مع "الكردستاني" وتقديم تنازلات له، وبالتالي حصر العلاقة مع "الكردستاني" بأنه تنظيم إرهابي يبحث عن الاستيلاء على السلطة.

اقرأ أيضاً: داود أوغلو يواصل محاولته الدفعَ نحو دستور تركي جديد

أسباب فشل التوافق على دستور جديد

هناك الكثير من العقبات تقف بوجه الدستور التركي الجديد، ومنعت إتمامه في مرات سابقة، وقد تُفشل المحاولة الجديدة أيضاً، ويأتي على رأسها الثقافة السياسية في تركيا، والتي لم تستطع الخروج من سياسة حقبة "حرب الإنقاذ"، الأمر الذي يشير إليه رئيس مركز الدراسات الاقتصادية والسياسية الاجتماعية إيرول تونجر، قائلاً: "يجري النظر إلى ممارسة السياسة في تركيا وكأنها حرب الإنقاذ، ولذلك لم يتم حل أية مسألة أساسية في البلاد، لأن الجميع يدخل الميدان وهو متشنج وفي ذهنه أن البلاد تحتاج إلى إنقاذ وكأنها ستقسم أو تحت احتلال".

ويضيف: "من في الحكم لا يريد ترك مساحة للمعارضة، والأخيرة تريد إنقاذ البلاد من يد الحكومة، ويجري فَهم السياسة على أنها حرب إنقاذ، مع أن الدول ذات الديمقراطيات المستقرة لا تحتاج إلى إنقاذ، ولذلك نرى أن نسبة المشاركة في التصويت في الانتخابات لدينا مرتفعة للغاية، أما في الغرب فإن المشاركة لا تتجاوز 55 أو60 في المائة في أحسن الأحوال، والفارق أن هذه الدول حلّت كل مشاكلها الرئيسية".

ويرى تونجر أن "مسؤولية تطوير الثقافة الديمقراطية تقع قبل كل شيء على عاتق الساسة، وعليهم أن يصححوا علاقاتهم ببعضهم، فإن اشتدت الخلافات في الأعلى تتحوّل القاعدة إلى مليشيات".

من جهته، يُحمّل محمد كجكجيلر، أحد مؤسسي حزب "الوطن الأم" (يميني)، المعارضة مسؤولية الفشل في التوافق على دستور جديد، قائلاً "إن حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، بعيدان عن الحكم منذ فترة طويلة، الأمر الذي يعمّق المعارضة لديهما، وباتا يخافان من الإقدام على أية خطوة، لأنهما يخافان من أن دعمهما للحكومة في تغيير الدستور سيتحوّل إلى إنجاز لها، ويرفع من أسهمها".

أما أستاذ علم الاجتماع في جامعة صابانجي، أرسين كلايجي أوغلو، فيعتبر أن حزب "العدالة والتنمية" مسؤول عن الفشل في التوافق على الدستور الجديد، قائلاً: "هناك حزب نجح في البقاء في الحكم ويسعى إلى تقوية حكمه أيضاً، وأنا هنا لا أتحدث عن النظام الرئاسي فحسب، ولكننا بحاجة إلى نظام انتخابي أكثر تمثيلاً، وأكثر قوة، وفصل بين السلطات، وبنية أكثر حرية أيضاً"، مضيفاً: "لكن من في السلطة يريد احتكارها، ويبحث عن نظام يتحكّم هو به بما في ذلك الجانب الاقتصادي، ويريد للمعارضة أن تكون مقيّدة، هكذا يتصورون الدستور الجديد".

اقرأ أيضاً: تركيا: "الشعب الجمهوري" يجدد معارضته الانتقال لنظام رئاسي

المشاريع المطروحة للدستور الجديد

على عكس كل الدول الإسلامية في الشرق الأوسط، تكاد علمانية الدولة تكون الشيء الوحيد الذي تُجمع عليه الأحزاب التركية، وإن كان يمين الوسط أو حزب "العدالة والتنمية" أكثر ميلاً إلى تخفيف العلمانية الأتاتوركية المتطرفة، بأخرى تضمن حياد الدولة تجاه الدين لا عداءها له، وبينما تبقى معظم المشاريع المقدّمة غير مكتملة وعبارة عن أفكار، يمكن تمييز أربعة مشاريع رئيسية.

1-العدالة والتنمية:

يطالب الحزب الحاكم بالتحوّل نحو النظام الرئاسي، معلّلاً ذلك بتجنيب البلاد الفوضى والفشل الذي رافق الحكومات الائتلافية في الثمانينات والتسعينات، مع طرحه عدة نماذج، منها النظام الرئاسي الأميركي أو الفرنسي، وأخيراً الحديث عن نظام رئاسي خاص بتركيا، وذلك من دون تغيير أسلوب إدارة الدولة أو التقسيمات الإدارية، على أن يقرّ الدستور بالتنوع الثقافي والاجتماعي في البلاد. لكن يعرّف المواطَنة من دون الإشارة إلى الدين أو العرق، بما يشبه حلاً وسطياً ينهي تهميش الأكراد عبر عدم الإشارة إلى القومية التركية بمعناها العرقي، مع الحفاظ على اللغة التركية لغة رسمية للبلاد وكذلك لغة التعليم الحكومي، وضمان الفصل بين السلطات وآليات محاسبة الحكومة والحقوق والحريات وفق المعايير الأوروبية، وكذلك تغيير قانون الأحزاب والانتخاب.

2-الشعب الجمهوري:

يتمسّك بالنظام البرلماني ويرفض التحوّل إلى النظام الرئاسي، وكذلك المساس بالمواد الثلاث الأولى من الدستور الحالي، التي تقرّ بأن الدولة التركية هي جمهورية، تضمن العدالة والتضامن الوطني والسلم الاجتماعي وتحترم الحقوق ومرتبطة بقومية أتاتورك، وتستند إلى مبادئه الأساسية، في الديمقراطية والعلمانية، وتحدد اللغة التركية باللغة الرسمية للدولة، والعاصمة بمدينة أنقرة وكذلك تحدد النشيد الوطني وشكل العلم التركي.

ولا يرى "الشعب الجمهوري" حرجاً في نقاش كل ما عدا ذلك، بما فيه السماح باعتماد اللغة الأم للأقليات غير التركية في التعليم، تغيير التقسيمات الإدارية، ومنح سلطات أكبر للإدارة المحلية والبلديات، وصولاً إلى الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية التي طرحها "الشعوب الديمقراطي". كما يطالب بتخفيف القيود التي فرضها "الانقلابيون" في قانون تشكيل الأحزاب، والحد من الحصانة التي يتمتع بها النواب.

3-حزب الحركة القومية:

لا يقدّم "الحركة القومية" أي مشروع سوى لاءات عديدة، إذ إنه يرفض النظام الرئاسي ويتمسّك أيضاً بالنظام البرلماني، ويرفض المساس بالمواد الثلاث الأولى من الدستور الحالي. ويشدد على الهوية القومية التركية للأمة التركية الموحدة، ويرفض منح أي وضع قانوني أو سياسي لأية هوية إثنية، وكذلك بناء الحقوق الفردية والحريات على أساس إثني. كما يرفض الاعتراف الدستوري بأية ثقافة لأية أقلية عرقية، وكذلك بأية لغة ما عدا اللغة التركية، ويرفض استخدام غير التركية في التعليم وأيضاً إنشاء أي إدارة ذاتية أو حكم محلي.

4-حزب الشعوب الديمقراطي:

لم يطرح الحزب أي مشروع واضح، حتى الأسبوع الأخير من العام الماضي، باقتراحه ورقة يُحدد فيها الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي (الذي يطرحه العمال الكردستاني في ما بدا استنساخاً لتجربة جناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي) مبدأ يعتمده الدستور الجديد، إضافة إلى الطلبات السابقة التي تحدثت عن ضرورة بناء مواطنة تعتمد الانتماء للجمهورية التركية وليس العرق التركي. كما يجعل خياره بين كتابة تعريف للمواطنة يعترف بجميع الأقليات العرقية والمذهبية، أو عدم الإشارة لأي عرق قومي، مع تعريف للأمة التركية لا تعتمد العرق التركي ولكن ترى في الأمة المتواجدة في تركيا أساساً له. وعلى الرغم من أنه يفضّل النظام البرلماني لكنه ليس متشدداً برفضه للنظام الرئاسي.

وطرح الحزب وثيقة مكوّنةً من 14 مادة تُعرّف الإدارة الذاتية، تقوم على أن تجتمع عدد من المدن بناءً على التقارب الثقافي والاقتصادي والجغرافي في إدارة ذاتية، تكون الأساس للدستور التركي الجديد، ُينتخب فيها مجلس إدارة ذاتية. ويتولى هذا المجلس تقديم الخدمات التعليمية، بما في ذلك تعليم تاريخ المنطقة وثقافتها وعدد من المناهج الخاصة باللغة الأم لسكان المنطقة، إضافة إلى المنهاج المركزي وكذلك الخدمات الصحية والقضائية للمواطنين. كما تتولى الإدارة الذاتية جمع الضرائب واستثمار المواد المحلية، وكذلك الشؤون الأمنية وتشكيل وحدات أمن خاصة بها تعمل بالتنسيق مع وحدات الأمن المركزي، وتتخذ الإدارة الذاتية من اللغات المحلية لغة رسمية إضافة إلى اللغة التركية.

اقرأ أيضاً: تركيا ما بعد الانتخابات: إحياء تغيير الدستور... والسلام الكردي