يبدو أن العلاقات التركية الأميركية تتجه بعيداً عن التصعيد والتوتر الكبير الذي شهدته خلال الفترة السابقة، وذلك بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إلى العاصمة التركية أنقرة، التي تمّ التوصل فيها إلى خارطة طريق لمصالحة أميركية ــ تركية بدءاً من الخلاف حول سورية على خلفية دعم واشنطن للمقاتلين الأكراد، وصولاً ربما في المرحلة اللاحقة إلى الخلافات الأخرى غير المتصلة بالملف السوري.
والتقى تيلرسون، في زيارته لأنقرة في اليومين الماضيين، كلاً من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره التركي، مولود جاووش أوغلو. وشهدت الاجتماعات توافقاً على عناوين خارطة طريق للعمل على استراتيجية البلدين في ما يخص سورية، وإعادة بناء الثقة بدءاً من منطقة منبج السورية، تنفّذ بموجبها واشنطن وعودها لأنقرة بسحب قوات الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للعمال الكردستاني) منها بعد طرد "داعش".
وعمّت أنقرة أجواء من التفاؤل الحذر بالمحادثات، يومي الخميس والجمعة، وسط سعي تركي لتجاوز الخلاف مع الحليف في حلف شمال الأطلسي، في ظلّ نجاح تركي واضح في إدارة ثلاثة ملفات في سورية في آن واحد: الأول استمرار عملية غصن الزيتون في عفرين حتى الآن من دون وجود أي اعتراض دولي حقيقي. الثاني استمرار أنقرة في تطبيق اتفاقات خفض التصعيد بالتعاون مع الروس والإيرانيين في إدلب ونشر نقاط المراقبة. وثالثاً السعي إلى الوصول لنهاية سعيدة مع الأميركيين في ما يخص منبج، كخطوة أولى لإنهاء الخلافات حول استراتيجية البلدين في سورية.
وتشمل المحادثات التركية الأميركية في اللجنة المشتركة، التي ستضم بحسب جاووش أوغلو، ممثلين عن كل من وزارتي الخارجية والدفاع والاستخبارات، جميع المواضيع الخلافية بين الجانبين، بدءاً من إصرار واشنطن على الاستمرار بدعم مليشيات "الاتحاد الديمقراطي" التي تعتبرها تركيا "خطراً وجودياً على الأمن القومي". وكذلك تنسيق المواقف في ما يخصّ محادثات السلام السورية في جنيف، ومروراً بموضوع نشاط حركة الخدمة وترحيل زعيمها، فتح الله غولن، المقيم في ولاية بنسلفانيا والمتهم بإدارة المحاولة الانقلابية (15 يوليو/تموز 2016)، وانتهاء بمبيعات السلاح المجمّدة لتركيا. وسيتم العمل على عقد أولى اجتماعات اللجنة قبل منتصف مارس/آذار المقبل، وفي حال التوصل لتفاهمات وتمكّن الخارجية الأميركية من فرضها على الجيش ووزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) المصرّة على دعم "الاتحاد الديمقراطي"، فستساهم بشكل كبير في إعادة ترتيب الطاولة في الحرب السورية.
وفي معرض رده على التسريبات التي نقلتها وكالة "رويترز" عن مسؤولين أتراك حول مناقشة واشنطن الاقتراح الذي تقدمت به تركيا لسحب مليشيات "الاتحاد الديمقراطي" من منبج مقابل مشاركة قوات أتراك إلى جانب القوات الأميركية في المنطقة، قال تيلرسون: "إن منبج موضوع ذو أولوية، ومهم من الناحية الاستراتيجية"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة تودّ أن ترى هذه المنطقة تحت سيطرة حلفائها، ولا نودّ أن تدخل قوة أخرى لهذه المنطقة، وسيكون ذلك أحد المواضيع المهمة التي سنعمل على مناقشتها".
ومدينة منبج في ريف حلب الشمالي الشرقي، ينتشر فيها جنود أميركيون، وتهدد أنقرة بتوسيع نطاق عمليتها ضد وحدات حماية الشعب الكردية المتحالفة مع واشنطن، وصولاً إليها. وفي كلام ربما يكون تأكيداً للمعطيات التي تحدثت عن عرض تكوين قوة أميركية تركية مشتركة تنتشر في منبج بدلاً من المقاتلين الأكراد، قال تيلرسون "لن نتحرك كل بمفرده بعد الآن. سنعمل معاً، ولدينا آليات جيدة حول كيفية تحقيق هذه الأمور وهناك الكثير من العمل للقيام به". كما أشار الوزير الأميركي إلى أن "دعم بلاده للاتحاد الديمقراطي سيبقى محدوداً"، لافتاً إلى أن "علاقاتنا مع تركيا مستمرة واستراتيجية، ولابد لنا من العمل سوياً مع تركيا فيما يخص سورية، ونقول لهم إن دعمنا لقوات سورية الديمقراطية سيكون محدوداً ولمهام محددة"، في إشارة إلى "قوات سورية الديمقراطية" التي شكّلتها واشنطن وتسيطر عليها مليشيات "الاتحاد الديمقراطي".
ويبدو بأن الاستراتيجية التركية تقوم على إعادة تطبيع العلاقات والتنسيق المتنامي مع واشنطن، والحلول بشكل تدريجي كعنصر رئيسي لا يمكن التخلي عنه في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وصولاً لتحويل التخلّي عن "العمال الكردستاني" وجناحه السوري مسألة وقت لا أكثر.
في هذا السياق، أكد مصدر تركي مطّلع، لـ"العربي الجديد"، أن "التوافق كان على خارطة الطريق والتي ستحتاج الكثير من الجهود والوقت، لتخفيف مخاوف تركيا الأمنية من التعاون بين واشنطن والعمال الكردستاني. وتمّ التوافق على الخطوط العريضة لناحية اللجان وكيفية عملها، وأكدنا للأميركيين بأننا نحتاج إلى خطوات لإعادة بناء الثقة، لا بد أن تبدأ من الالتزام بالوعود الأميركية في ما يخص سحب الاتحاد الديمقراطي من منبج. ومن ثم سنبدأ بفتح جميع النقاط الخلافية في ما يخصّ الاستراتيجية السورية وبالذات تلك المتعلقة باستراتيجية سحب السلاح الأميركي الثقيل من مليشيات العمال الكردستاني في سورية، وأيضاً بتركيبة ما يُدعى قوات سورية الديمقراطية ونفوذ العمال الكردستاني عليها والرفع من قوة العرب فيها إلى غيرها من الأمور الخلافية". ولفت المصدر إلى أن "ما نخطط له أيضاً هو أن تشمل المحادثات أيضاً جميع قضايا المنطقة بما في ذلك العراق والعودة للعمل على وضعية الحليف الحقيقي كما كانت في أوقات سابقة".