الانتخابات الإسرائيلية (3): في انتظار حديث الجنرال

13 يناير 2019
هل يطيح غانتس نتنياهو في أبريل؟(كوبي جدعون/Getty)
+ الخط -
يبدي الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، رئيس أركان جيش الاحتلال خلال عدوان "الجرف الصامد" على غزة، بني غانتس، حذراً شديداً في الكشف عن ميوله ومواقفه السياسية وأي موقع يصبو إليه على خريطة الأحزاب الإسرائيلية، بعد إعلانه قبل أسبوعين عن تأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم "مناعة إسرائيل". حافظ الجنرال غانتس على ضبط النفس عندما حاول رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بكلمة واحدة ضرب فرصه في انتخابات الكنيست المقررة في 9 إبريل/نيسان المقبل، عندما قال من البرازيل "لا أتدخل بكيفية توزيع اليسار أصواته" في محاولة لحرق غانتس وحشره في معسكر اليسار. كما لم يصاب بالغرور في رده على سؤال حول "من هو الشخص الملائم لرئاسة الحكومة؟"، عندما منحه استطلاع القناة العاشرة نسبة تأييد هي الأعلى لمرشح من خارج الليكود وداخله، في مقابل نتنياهو. وحصل غانتس على 39 في المائة في مقابل 41 في المائة لمصلحة نتنياهو، بينما لم يتجاوز أي من الآخرين، بمن فيهم إيهود باراك وتسيبي ليفني، ويائير ليبيد وموشيه يعالون نسبة الـ20 في المائة.

صمت غانتس، وحرصه الشديد على ألا يزل لسانه بتصريح سابق لأوانه، منح خصومه في الليكود تحديداً، وأيضاً ممن يخشون الشعبية التي يتمتع بها حتى قبل إطلاق حملته الانتخابية وإعلان لائحة المرشحين معه، فرصة  لتشويه صورته أمام الناخبين، باعتباره مراوغاً يخفي مواقفه الحقيقية. علماً بأن هذا الصمت وما يتبعه من غموض هو ما يفسر حالياً حصوله في الاستطلاعات على 14-16 مقعداً.
ويكشف هذا الأمر بدوره، ولو جزئياً، حالة توق الإسرائيليين إلى شيء جديد، لكن ليس يساراً في المطلق، بل جنرالاً يملك وعياً وإدراكاً طبيعياً ومجرباً لمواجهة التحديات الأمنية والعسكرية، ولا يفتقر في الوقت ذاته لقيمة إضافية في المجال الاجتماعي، كتلك التي مكنت باراك مثلاً عام 1999 من التغلب على نتنياهو. فقد تمكن باراك، المجرّب عسكرياً، من خلال عبارته المشهورة بأنه يريد الاهتمام "بتلك العجوز المتروكة في رواق داخل المستشفى"، من إبراز قيمة إضافية لديه، رابطاً بين افتقار المستشفى إلى أسرّة  للمرضى وبين أولويات الحكومة غير الصحيحة التي تقرر الاستثمار في المستوطنات على حساب المواطن العادي داخل إسرائيل.

لكن باراك كان قد سبق هذا التصريح بمواقف "صقورية" داخل حكومة إسحاق رابين الذي عيّنه في صيف 1995 وزيراً للداخلية. فقد امتنع عن تأييد اتفاق أوسلو عند عرضه على الكنيست، معرباً عن تحفّظه الشديد على فكرة "الانسحاب الكامل من الجولان". لا يملك غانتس كل هذا الرصيد المجرّب في كواليس السياسة الإسرائيلية، وهي كواليس مظلمة، وأخطر مما كانت عليه عندما نافس باراك نتنياهو، من موقعه مرشحاً عن حزب العمل، ذي التاريخ العريق، وصاحب المنظومة الحزبية الهائلة والقوية بفروعها المنتشرة في كل مكان داخل إسرائيل، سواء في البلدات والقرى العربية، أو حتى في قلب مستوطنات الضفة الغربية المحتلة.



نقاط القوة والضعف، أو الفرق بين حالة غانتس ومكانة باراك معروفة جيداً للجنرال غانتس، وهي تزيد من حرصه وحذره الشديدين. وقد زاد هذا الحرص وذلك الحذر من "غموض الجنرال" وربما من سحره لدى الإسرائيليين، وبدرجة أكبر زاد من القلق لدى الأحزاب القائمة. ووفقاً لمتابعي كواليس السياسة الحزبية في إسرائيل، فإن غانتس، يصرّ على الانتظار ولا يعتزم التخلي عن ورقته الرابحة. وحتى عندما اتهم الليكود زوجته بأنها ناشطة في منظمة نسائية مناهضة للاحتلال، لم يردّ غانتس، وأحال الجميع إلى نفي له لهذه الدعاية من مقابلة قديمة.

لكن نعمة الصمت، أو مدتها بدأت تقصر وهي على وشك الانتهاء، وعندها قد تتغير الصورة كلياً، وقد تشهد المعركة الانتخابية تحولاً كبيراً، يمكن أن يُحدث تغييراً جارفاً في الشارع الإسرائيلي كله. فمن المقرر أن يلقي غانتس خطابه الأول كمرشح لرئاسة الحكومة، بعد منتصف الشهر الحالي، وسيكون عليه التطرق إلى مسألة جوهرية مرتبطة بالانتخابات الإسرائيلية، وهي موقفه من نتنياهو ومدى استعداده للجلوس في حكومة مشتركة برئاسته أو إلى جانبه.

ووفقاً لما بدأ يتسرب من مقربين من غانتس، فإنه في الوقت الذي سارع فيه خصومه في معسكر اليمين المعتدل (يائير لبيد زعيم حزب ييش عتيد) والوسط واليسار (أفي غباي، زعيم حزب العمل، وتسيبي ليفني زعيمة الحركة) إلى إعلان التزامهم عدم الجلوس في حكومة مع نتنياهو في حال قُدّمت ضده لائحة اتهام، فإن غانتس آثر الصمت، وبدأ في ترسيم صورة له باعتباره مرشحاً لرئاسة الحكومة، وليست مجرد حكومة بل حكومة وحدة وطنية. في المقابل، حاول خصومه القول إنه يريد البقاء على رأس حزب وخوض الانتخابات من خلاله، لأنه يريد المحافظة على هامش مناورة بعد الانتخابات، أملاً في الوصول إلى حقيبة الأمن، خصوصاً إذا حصل حزبه على ما بين 14 و16 مقعداً.

لكن رائحة أخرى تفوح من بين سطور التحركات الحزبية المحمومة والحرب بين الجميع ضد الجميع يمكن أن تحول الانتخابات الحالية برمتها إلى انتخابات "نصف ولاية"، على اعتبار أنه مهما تأخر قرار المستشار القضائي للحكومة، أفيحاي مندلبليت، بشأن لوائح الاتهام ضد نتنياهو، فإن إعلان تقديم مثل هذه اللوائح، وبتهم الفساد وتلقي الرشوة، سيخلق في إسرائيل وضعاً لا يسمح للحكومة الخامسة لنتنياهو بإكمال ولايتها الدستورية وذلك في حال كان نتنياهو المنتصر في الانتخابات وهو من شكل الحكومة المقبلة.  وبالتالي ففي حال اضطر نتنياهو للاستقالة، ليس مؤكداً نجاح من يخلفه في قيادة الليكود (والأرجح أن يكون إما جدعون ساعر أو يسرائيل كاتس) بتشكيل حكومة جديدة. وعندها قد يتمكن زعيم المعارضة، رئيس أكبر حزب خارج الحكومة، من تجنيد تأييد 61 عضواً في الكنيست، يؤيدون تكليفه بتشكيل حكومة جديدة من دون الذهاب لانتخابات جديدة. هذا السيناريو مهما بدا مستبعداً، إلا أن مفاجآت السياسة الإسرائيلية تُبقي له قدراً من صحة الاحتمال، في حال تفاقمت مسألة ملفات نتنياهو القضائية. ويبدو أن قادة الأحزاب الأخرى، تحديداً، حزب "ييش عتيد"، بقيادة يائير ليبيد، يأخذون هذا الاحتمال بالحسبان، وهم يستغلون هذه الورقة لضرب شعبية نتنياهو في اليمين وصولاً إلى رفع حدة حالة النفور من الفساد ومظاهره.

كسر الجنرال غانتس لصمته، وخلعه لبوس الغموض، في الأسابيع المقبلة سيكون الحدث الأبرز، خصوصاً أن تسليم قوائم المرشحين وشبكات التحالفات الحزبية أمر لن يحصل قبل أواخر شهر فبراير/شباط المقبل.

انتظار جنرال مخلّص في الساحة الحزبية الإسرائيلية ليس جديداً، على الرغم من تشابك السياسة بالجيش في سنوات إسرائيل الأولى، إذ كان أمراً شبه مفهوم حتى أواسط السبعينات، أن ينضم خريجو الجيش وجنرالاته إلى الحزب الحاكم "حزب المباي" وتحالفاته الانتخابية "المعراخ". مع ذلك لا بد من استذكار سلسلة من الجنرالات الذين كسروا هذا التقليد، من دون أن يؤدي هذا الكسر لتحقيق الفائدة المرجوة والمنتظرة، لمن قاموا به.

صحيح أن إسحاق رابين كان أول جنرال ورئيس أركان سابق يتولى رئاسة الحكومة بعد سقوط حكومة غولدا مائير عام 1974، لكنه سرعان ما غادر الحكم بفعل قضية فساد واتهامه هو وزوجته بالإبقاء على حساب في الولايات المتحدة، في السنوات التي شغل فيها منصب السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، لكن كسر تقاليد تحقيق الذات بعد الجيش في الحياة المدنية، ضمن حزب "المعراخ" بدأ عملياً بآرييل شارون.

وهم الجنرال المخلص من خارج الحلبة السياسية



تمكن ثلاثة جنرالات فقط، اثنان منهم كانا رئيسي أركان للجيش، هما إسحاق رابين وإيهود باراك، وثالثهما شارون، من الوصول إلى كرسي رئاسة الحكومة، لكن من خلال حزب قائم وليس من خلال تأسيس حزب جديد.
في عام 1993، نجح رابين في الوصول لرئاسة الحكومة، بفعل اعتماده شعار "إسرائيل تنتظر رابين"، المستنسخ من "رصيده العسكري" في الأيام التي سبقت حرب حزيران 1967، وهو "رابين ينتظر ناصر". وتغلب رابين على زعيم الليكود ومرشحه إسحاق شامير، ليتوج رئيساً للحكومة، وفقط بفضل انقسام أحزاب اليمين وحرق الأصوات بسبب عدم تمكن حزب "هتحيا" آنذاك بقيادة يوفال نئمان وغيئولا كوهين والحاخام حاييم دركمان، من اجتياز نسبة الحسم.



وفي عام 1999 تمكن باراك، مرشحاً عن حزب العمل، من التغلب على نتنياهو، والإطاحة به في الانتخابات. وفي عام 2001 في انتخابات خاصة لرئاسة الحكومة، تمكن شارون بعد استئثاره بزعامة الليكود من التغلب على باراك والإطاحة به. وما عدا هذه الحالات الثلاث، شهدت إسرائيل منذ أواسط السبعينات محاولات جنرالات سابقين خوض غمار السياسة من خارج الحزبين الكبيرين، من دون نجاح يذكر.


محاولة شارون 

البداية مع شارون الذي يُعتبر أبرز وأول من خاض الانتخابات على رأس حزب "شلوم تسيون"، بعد انسحابه من الليكود عشية الانتخابات العامة 1976، داعياً الناخبين لحزبه، كي يكون شارون وزيراً للدفاع، فحصل الحزب على مقعدين ثم عاد بعد الانتخابات واندمج في الليكود، وفقط من هذا الموقع حقق شارون مراده.

"داش" بقيادة يغئال يدين


بدوره، أسس رئيس الأركان الأسبق لجيش الاحتلال، يغئال يدين، حركة "داش"، التي طرحت نفسها باعتبارها حزب وسط يزاوج بين تطلعات تسوية إقليمية وبين نوع من الاستيطان الأمني في الضفة الغربية المحتلة، وحصلت على 15 مقعداً، في انتخابات 1977، من دون تحقيق تأثير بالغ في السياسة، وسرعان ما تفككت في عام 1978.


تيلم بقيادة موشيه ديان

أما موشيه ديان، فقد انتُخب لسنوات عضواً في الكنيست من خلال حزب "المباي" ولاحقاً العمل وقائمته التحالفية "المعراخ"، لكن ديان بعد انتصار الليكود عام 1977، وتشكيل مناحيم بيغن لحكومته الأولى انضم للحكومة وزيراً للخارجية، وكان مهندس اللقاءات السرية مع نائب رئيس الوزراء المصري حسن التهامي في المغرب، التي أفضت لاتفاقية كامب ديفيد مع مصر. إلا أن ديان انشقّ في عام 1981 وأسس حزب "تيلم" وخاض الانتخابات العامة في العام عينه، لكنه، ومن خارج إطار الحزب التقليدي، لم يفز بأكثر من مقعدين.

إسحاق مردخاي وحزب المركز


جنرال آخر يبرز اسمه هو إسحاق مردخاي، الذي شغل منصب وزير الأمن في حكومة نتنياهو الأولى (1996 ـ 1999). شغل مردخاي، منصب وزير الأمن، وكان محط تعاطف شعبي وحزبي، بعدما تبين أن جهاز الشاباك لفق له عندما كان قائداً للمنطقة الوسطى تهمة قتل فدائيين بعد أسرهما، ثم اتضح لاحقاً أن من قام بقتلهما هو عضو الكنيست السابق، إيهود يتوم. واعتُبر ضمّه لحكومة نتنياهو في منصب وزير الأمن تعويضاً وإصلاحاً للغبن. لكن مردخاي دخل في معارك ومواجهات مع نتنياهو، الذي كان يواجه معارضة داخلية شديدة من أوساط في حزبه، لا سيما مجموعة "أمراء الليكود" الذين كان آباؤهم من مؤسسي الحزب مثل بني بيغن ودان مريدور وروني ميلو وآخرين. وحاول بعض هؤلاء الانشقاق عن الليكود. وفيما كان مريدور ورئيس الأركان الأسبق أمنون ليفكين شاحاك وروني ميلو يتباحثون مع مردخاي فرص تشكيل حزب جديد، وكيفية تحديد من يترأسه، ووفق أي استطلاعات، فوجئ الجميع بنتنياهو وعبر تصريح تلفزيوني مباشر، يعلن إقالة مردخاي من وزارة الأمن. كان أثر الإقالة المهينة على المجتمعين مع مردخاي قوياً فاتفقوا على اختيار مردخاي رئيساً لحزب "المركز" الذي أسسوه.
انطلق "المركز" برئاسة مردخاي في المعركة الانتخابية لعام 1999، لكن سرعان ما فقد شعبيته، لكون خصمه في الطرف الآخر من الخارطة الحزبية، إيهود باراك أكثر شعبية منه. وظلّ مردخاي يماطل ويرفض الانسحاب من المعركة حتى يومها الأخير عندما أعلن انسحابه من الترشح لرئاسة الحكومة لصالح باراك. وحصل حزب مردخاي على 6 مقاعد فقط.

الجنرال أفيغدور كهلاني والطريق الثالث


من جهته، جاء الجنرال أفيغدور كهلاني إلى السياسة الحزبية والكنيست الإسرائيلي عام 1992، عضواً في حزب العمل، مستنداً إلى قتاله في حرب تشرين 1973 وإصابته في المعارك في الجبهة السورية. أسس في عام 1995 حركة "الطريق الثالث" المناهضة لأي انسحاب من الجولان المحتل، رداً على المحادثات بين إسرائيل بقيادة رابين، وسورية بقيادة حافظ الأسد، حول مصير الجولان المحتل. وخاض الانتخابات العامة على رأس هذه الحركة عام 1996 في أوج المنافسة بين شمعون بيريز ونتنياهو، بعد اغتيال رابين. حصلت حركته على أربعة مقاعد، أهّلته للحصول على وزارة الأمن الداخلي في حكومة نتنياهو الأولى. ظلّ وزيراً حتى عام 1999، لكن حركته لم تجتز نسبة الحسم في تلك الانتخابات واختفت من المشهد الإسرائيلي.

عميرام متسناع على رأس العمل


اشتهر الجنرال عمرام متسناع بكونه رئيس أركان جيش الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، بين عامي 1987 و1993، وإن كان عجز عن كسرها، على الرغم من أوامر رابين للجيش بـ"تكسير عظام أطفال الحجارة". أنهى متسناع خدمته العسكرية عام 1993، ليُنتخب رئيساً لبلدية حيفا. تنافس عام 2002 على زعامة حزب العمل وتغلب على منافسيه، بنيامين بن أليعزر وحاييم رامون. خاض الانتخابات لرئاسة الحكومة عام 2003 مقابل شارون مرشح حزب الليكود، لكنه خسر أمامه، وتراجعت قوة حزب العمل بفعل تصريحاته المؤيدة للانسحاب من الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات، من 26 مقعداً إلى 19 مقعداً. استقال من رئاسة العمل ومن الحياة الحزبية عام 2005، ثم ترشح لاحقاً على لائحة الحركة بقيادة تسيبي ليفني، عام 2012، قبل إعلانه اعتزال السياسة نهائياً عام 2014.