الانقسام الألماني ينقذ روسيا: احتمالات التصعيد الأوروبي تتراجع

03 ابريل 2018
مسيرة لحركة السلام الألمانية ضد سباق التسلح(فرانك رومبرهورست/فرانس برس)
+ الخط -
رغم تصريح رئيس الاتحاد الأوروبي، دونالد توسك، بأنه لا يستبعد اتخاذ "إجراءات أخرى" ضد روسيا على خلفية اتهامها بتسميم الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال وابنته يوليا على الأراضي البريطانية، إلا أن ذلك قد لا يكون ممكناً، جراء وجود انقسامات أوروبية وحتى داخلية وطنية في ما يتعلق بتبني "استراتيجية موحدة". وجاء موقف وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، يوم الأحد الماضي، والذي أكد فيه الانفتاح على الحوار مع موسكو، ليعزز المخاوف، نظراً لما تمثله ألمانيا من ثقل داخل الاتحاد من جهة، ما يجعل موقفها حاسماً بشأن حدود الرد الأوروبي، ونظراً لما يجسده الجدل داخلها في ما يتعلق بالجدوى السياسية والاقتصادية لمقاطعة موسكو من انعكاس للانقسامات داخل دول أوروبية بشأن كيفية التعاطي مع روسيا.
وتفيد مصادر أوروبية خاصة، تحدثت مع "العربي الجديد"، بأنه "رغم المحاولات، إلا أن الاتحاد الأوروبي يعيش مأزقاً حقيقياً في انتهاج سياسة واضحة مع موسكو، فبعض المواقف غير المتحمسة للعقوبات تعكس أزمات داخلية في دول الاتحاد الأوروبي". ويشير أحد المصادر إلى أن "كثر وجدوا غرابة في تهنئة (رئيس المفوضية) جان كلود يونكر لـ(الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين بالفوز بالانتخابات الأخيرة ".
وكان لافتاً عدد الدبلوماسيين الروس الذين قامت برلين وباريس بطردهم مقارنة بدول أصغر، ما عكس، لو جزئياً، عجز الأوروبيين عن تبني استراتيجية موحدة.




وفي السياق، يقول كبير الباحثين في مركز الدراسات الدولية في كوبنهاغن، هانس مورتنسن، إنه "حين لا يستطيع الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف جماعي من الروس، فإن هذا ينم بالفعل عن انقسامات داخل الاتحاد تجاه روسيا". ويلفت إلى أن الأزمة الأخيرة تظهر "الاستثمارات الروسية طويلة النفس يميناً ويساراً في دول الاتحاد"، فيما يرى رئيس مركز الدراسات العسكرية في جامعة كوبنهاغن، هينريك بريتنباوك، أن "بعض الدول والقوى لم تفهم بعد خطورة الموقف".
في موازاة ذلك، يلعب الروس، برأي خبراء في سياسات الكرملين، على تناقضات الأوروبيين. وهو ما يفسّر تكرار الكرملين مرات عديدة، رداً على اتهام روسيا بتسميم سكريبال، أن "الغرب مذنب حتى يثبت العكس".
وسط هذه الأزمة، تتركز العيون الأوروبية على ألمانيا وجدلها الداخلي بشأن الموقف من روسيا نظراً للموقع الذي رسمته ألمانيا لنفسها عقب الوحدة، أي قبل نحو 30 سنة، كزعيمة قوية للاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن تعقيدات العلاقة الروسية - الألمانية "تؤثر كثيراً في مواقف أوروبا من روسيا".
كما أنه بعيداً عن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استطاع خلال الأعوام الماضية نسج علاقات متميزة مع أحزاب وحركات من أقصى اليمين واليسار ومعارضي المؤسسات القائمة في دول عديدة بالقارة، فإن مصالح اقتصادية متشابكة ومؤثرة تبدو معيقة في الحزم الأوروبي، والألماني تحديداً، تجاه روسيا. وعلى الرغم من أنّ حكومة ميركل اعتبرت تسميم سكريبال وابنته على الأراضي البريطانية "اعتداء على السيادة البريطانية ويهدد أمن الجميع"، لكنها تواجه قراءات أخرى غاضبة، تختزل ما لدى بقية الأوروبيين داخلياً من انقسامات.
فالألمان، وخصوصاً هؤلاء الذين رددوا ذات يوم في ألمانيا الشرقية نكتة عن "الأخ الروسي الكبير großer Bruder"، ومفادها أن "الروس إخوة وليسوا أصدقاء، فأنت لا تختار إخوتك"، (كإشارة إلى حالة فرض الأخوّة مع موسكو)، يتخبطون اليوم في الاتجاهات الواجب انتهاجها تجاه الكرملين. وثمة من يطلق على مواقف بعض الألمان، يسارا ويميناً، "نوستالجيا" الاتحاد السوفييتي.
ويبدو أن تأزم العلاقة الأوروبية الغربية مع روسيا أعطى في عطلة عيد الفصح دفعة لمسيرات حركة السلام الألمانية ضد سباق التسلح وحلف شمال الأطلسي، للدعوة إلى "وقف التوتر مع روسيا"، وهو الموقف الذي عبّر عنه وإن بطريقة أخرى وزير الخارجية الألماني. الأخير قال، بحسب ما أوردته وكالة "فرانس برس: "نحن بحاجة إلى روسيا كشريك من أجل تسوية نزاعات إقليمية، ونزع السلاح، وكركيزة مهمة للنظام المتعدد الأطراف". وأضاف "لهذا السبب نحن منفتحون على الحوار ونأمل في إعادة بناء الثقة شيئا فشيئاً إذا كانت روسيا مستعدة لذلك".
من جهته، يعتبر حزب الخضر (يسار) على لسان المتخصص بالعلاقات الخارجية يورغن ترتين، أن ما يجري "تخريب للحوار الدبلوماسي مع موسكو ويدفع نحو حرب باردة جديدة"، مستنداً إلى أنه "لا توجد أدلة على أن روسيا هي التي سممت سكريبال وابنته". الموقف نفسه يتخذه المفوض الأوروبي السابق في الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني (يسار الوسط)، غونتر فيرهوغن، الذي اعتبر أن العقوبات بحق موسكو "يجب أن تعتمد على حقائق وليس افتراضات".
هذا الجدل ليس تعبيراً عن حالات فردية. ففي ولاية براندنبورغ، المحيطة ببرلين، تظهر تأثيرات علاقة الكرملين بساسة ألمان شرقيين سابقاً. يذهب رئيس الوزراء السابق فيها، ماتياس بلاتزيك، وهو يتزعم اليوم المنتدى الروسي - الألماني، إلى رفض الخطوات التصعيدية بحق موسكو. ويطالب بما سمّاه "العودة إلى سياسات (المستشار الألماني الأسبق) فيلي برانت في العلاقة مع الكتلة الشرقية". وفي حديث مع صحيفة "دي فيلت"، يعتبر أن ما يجري "إطلاق النار على المتهم والبحث عن أدلة لاحقاً".
وبالرغم من تحذير خبراء ألمان، مثل كبيرة باحثي الفكر والسياسات الخارجية سارا باغونغ، من أن ما يجري يتم "وفق محددات لعبة بوتين، إذ رغم كل السنوات الألمانية في تحسين العلاقة مع روسيا يصعب أن تجد وصفة للرد على استفزازات الرجل الخطيرة"، إلا أن آخرين لا يرون الأمر كذلك.
وزير الخارجية السابق، سيغمار غابرييل، إلى جانب ساسة ألمان مؤثرين، يلتقي هذه المرة مع حزبي "دي لينكا" اليساري وبرلمانيين من "البديل لأجل ألمانيا" المتشدد في انتقاد العقوبات وطرد الدبلوماسيين الروس. وليس بعيداً يبرز اسم فولفانغ كوبيكي، من الحزب الديمقراطي الحر، مثيراً ضجة بطلبه رفع العقوبات عن روسيا، وتصريحه عن قضية سكريبال بأنها "مقلقة لإيجاد حلف شمال الأطلسي لعدو من أجل تشريع وجوده".

وتتعالى الأصوات، بشكل خاص في المناطق الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً)، التي تدعو إلى "تطبيع العلاقة مع روسيا"، وسمعت بشكل أكبر في ولاية تورينغن من معظم الأحزاب فيها. كما واجه رئيس وزراء ولاية ساكسونيا الأصوات المنتقدة للمقاطعة باعتبارها "غير فعالة، واحتمال تأثيرها ينخفض يوماً بعد يوم".
حتى حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي في بافاريا، الشقيق للديمقراطي المسيحي بزعامة ميركل، ليس بعيداً عن ذلك. وزير الداخلية الحالي، هورست سيهوف، وهو رئيس وزراء بافاريا السابق، والمعروف بأنه صاحب العلاقة الجيدة بالرئيس، طالب بدوره بالتخلص التدريجي من العقوبات على روسيا.

وقد سبق للحزب الديمقراطي الحر، أثناء الحملة الانتخابية، أن طالب على لسان كريستيان ليندنر، باسم "الواقعية"، بأبعد من ذلك، إذ قال إنه يتعين على "ألمانيا أن تقبل تدريجياً ضم روسيا للقرم".
ويستند معارضو تأزيم العلاقة مع روسيا إلى أن المقاطعة الاقتصادية "يتحملها الألمان أكثر من غيرهم"، باعتبار أن 40 في المائة من صادرات أوروبا إلى روسيا هي ألمانية.
في استطلاع رأي أجرته مؤسسة كوربر ستيفتونغ في هامبورغ، المتخصصة في الدراسات والأبحاث والحوار الدولي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، يُظهر 32 في المائة من الألمان رغبتهم بتوثيق العلاقة بروسيا، مقابل 42 في المائة فضلوا أميركا. الاستطلاع يعزز أيضاً المخاوف من استمرار "المقاطعة الاقتصادية" لروسيا. ففي ديسمبر/ كانون الأول الماضي صدر تقرير اقتصادي ألماني يشير إلى حجم خسائر الشركات الصغيرة والمتوسطة من سياسة المقاطعة. وبحسب التقرير، فإن أصحاب الشركات المتوسطة يخسرون شهرياً 727 مليون دولار.
على الرغم من كل ذلك، فإن ميركل، صاحبة الخبرة منذ أيام "ألمانيا الديمقراطية" باللغة والثقافة الروسيتين، ترفض الانتقادات وتعتبر أن موقفها يستند إلى القانون الدولي. بل تذهب الصحف، مثل دير شبيغل ودي فيلت، للقول إن "موقفها مسنود بالاستطلاعات الشعبية التي ترى أن بوتين يشكل تهديداً أمنياً عالمياً".
وتؤكد الباحثة الخبيرة في دراسات أوروبا الوسطى والشرقية، سارا باغونغ، لصحيفة "إنفارمشيون" الدنماركية، يوم الأحد الماضي، أنه "رغم أن نحو 80 في المائة من الشعب الألماني يرون بوتين تهديداً، إلا أنه يجب أن لا ننسى أن نحو 60 في المائة هم أقرب للتعاون من أجل رفع العقوبات". وتضيف "لكن واقعية رفعها مستحيلة، فالاتحاد الأوروبي سيفقد ماء وجهه تماماً، إذا لم يحدث تغيير كبير في عملية ميسنك للسلام (الخاصة بأوكرانيا)".

 

المساهمون