ولا يمكن فصل الإجراء الأميركي عما بات يُعرف باستراتيجية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الهادفة إلى احتواء "أذرع إيران في الشرق الأوسط" وعلى رأسها "حزب الله" المنتشر على طول خارطة الصراع في سورية والعراق واليمن وعلى حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة. فبالتزامن مع مراجعة ترامب للاتفاق النووي الذي أنجزته إدارة سلفه باراك أوباما مع إيران، يبدو واضحاً أن السلطات الأميركية عبر الإجراء الأخير قد بدأت تعتمد نهجاً أكثر تشدداً ضد "حزب الله" من خلال محاولة تجفيف مصادر تموليه وملاحقة قادته العسكريين والأمنيين.
من جهة ثانية، تخوض السعودية معركتها مع إيران في العواصم العربية التي باتت تسطير عليها طهران، إما مباشرة أو بالوكالة، كدمشق وبيروت وبغداد وصنعاء. كذلك لا تبدو إسرائيل بعيدة عن المشهد التصعيدي ضد "حزب الله"، مع تحضير جيشها لخوض معركة "الجبهة الشمالية الموحدة"، التي يُقدّر صانعو القرار الإسرائيلي أنها ستشمل الجبهتين اللبنانية والسورية معاً.
تصعيد أميركي
بحسب الملصق الدعائي الذي عمّمته وزارة الخارجية الأميركية، يوم الثلاثاء، فإن المطلوبيَن اللبنانيين فؤاد شكر وطلال حمية "هما من كبار مسؤولي حزب الله". ويتضمّن الملصق وعوداً بتقديم مكافأة مالية تصل إلى 12 مليون دولار لمن يُدلي بمعلومات عن الرجلين. كما يحتوي الملصق الدعائي المعمم باللغة العربية، معلومات مقتضبة عن الرجلين ترتبط أساساً بطبيعة عملهما المفترضة في "حزب الله"، ويُصنّف شكر بأنه "أدى دوراً رئيساً في تخطيط وتنفيذ تفجيرات ثكنة المشاة البحرية الأميركية في بيروت في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983 التي أسفرت عن مقتل 241 من أفراد الخدمة الأميركية". علماً أن استهداف ثكنة مشاة البحرية الأميركية والسفارة الأميركية في بيروت سبق الإعلان الرسمي عن تأسيس "حزب الله"، وتبنّته جماعة مجهولة اسمها "منظمة الجهاد العالمي". وتصل المكافأة المالية المعروضة مقابل معلومات تؤدي إلى "سَوق فؤاد شكر إلى العدالة" إلى 5 ملايين دولار. وترتفع لتصل إلى 7 ملايين دولار مقابل معلومات عن طلال حمية "الذي يرأس منظمة الأمن الخارجي التابعة لحزب الله، ويدير خلايا منظمة في جميع أنحاء العالم، وهو مسؤول عن تخطيط وتنسيق وتنفيذ الهجمات الإرهابية خارج لبنان". علماً أن آخر اشتباه بضلوع الحزب في تنفيذ عملية أمنية خارج حدود الشرق الأوسط تعود إلى يوليو/تموز عام 2012 عندما استهدف تفجير حافلة تُقّل سياحاً إسرائيليين في مدينة بورغاس البلغارية. وتتهم السلطات هناك "حزب الله" بالمسؤولية عن هذا التفجير الذي أدى إلى مقتل سائق الحافلة وهو بلغاري الجنسية ومنفذ التفجير (لبناني يحمل جوازات سفر كندية وأسترالية) وجرح 30 سائحاً إسرائيلياً.
وتتيح الخارجية الأميركية خيارين للراغبين بالتواصل معها وتقديم معلومات عن الرجلين، إما عبر زيارة أقرب قنصلية أو سفارة أميركية أو عبر بريد إلكتروني يحمل عنوان "مكافأة من أجل العدالة"، مع وعد بحفظ سرية الأشخاص وإمكانية نقل المُخبر. وتأتي هذه الخطوة الأميركية في سياق تحوّل مجابهة الحزب المنخرط عسكرياً في المعارك السورية واليمنية والعراقية، إلى أولوية لإدارة ترامب. وسبقتها محاولة المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي، نيكي هايلي، تعديل ولاية قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان "يونيفيل" تحت القرار الدولي 1701 "من أجل منحها صلاحيات أكبر في مكافحة الانتشار المسلح للحزب على حدود إسرائيل الشمالية"، وهو ما قابلته دول كروسيا وفرنسا بالرفض "لأن القرار يزيد من خطر اندلاع اشتباكات مسلحة وأهلية بين قوات الطوارئ وأهالي الجنوب اللبناني"، كما صرح مصدر دبلوماسي روسي لوكالة "رويترز" خلال مناقشة تمديد ولاية القوات الدولية في أغسطس/آب الماضي.
حصار مالي أيضاً
وتتزامن حملة الخارجية الأميركية على "حزب الله" دعائياً وعملياً في مجلس الأمن مع تكثيف السلطات المالية في الولايات المتحدة من الضغط الاقتصادي على الحزب، عبر تضييق الخناق على مصادر تمويله المفترضة. آخر هذه العقوبات هو مشروعا قانونين، تدرسهما لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي لـ"الحد من التمويل الدولي لحزب الله" وآخر يفرض عقوبات على مسؤولين في الحزب بسبب "انتهاك حقوق الإنسان واستخدام مدنيين كدروع بشرية". وأدى إقرار سلسلة عقوبات مالية أميركية على الحزب العام الماضي إلى توتير الأجواء المحلية في لبنان، نتيجة الخلاف الحاد بين الحزب ومصرف لبنان المركزي وجمعية المصارف حول كيفية تطبيق هذه العقوبات المُلزمة. وتوّج تفجير مجهول استهدف المقر الرئيسي لـ"مصرف لبنان والمهجر" هذا الخلاف.
كما تلعب اللوبيات المنتشرة ضمن مراكز صنع القرار في العاصمة الأميركية، دوراً في تكثيف الضغط الدولي ضد الحزب. ولعل أبرز هذه الخطوات كانت عبر التقرير الطويل الذي نشرته "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" وفيه "تفصيل لحجم ومصادر تمويل حزب الله". ويلحظ التقرير "ارتفاع ميزانية حزب الله من 100 مليون دولار أميركي عام 1990 إلى حوالى مليار دولار بين عامي 2016 و2017، دفعت إيران 80 في المئة منها". وقسّم التقرير مصادر التمويل إلى تمويل دولي عبر مجموعة دول عربية وأجنبية وتمويل فردي عبر مجموعة من المستثمرين ورجال الأعمال والسياسيين في أفريقيا وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط.
السعودية حاضرة
خلف الضغط الأميركي تؤدي السعودية دوراً إقليمياً في محاولة حصار "حزب الله" عربياً عبر تصنيف الحزب على قائمة "الإرهاب" في مجلس التعاون الخليجي وفي جامعة الدول العربية. ويبرز في هذا الإطار وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان، الذي تُشكّل مواقفه الهجومية ضد الحزب وضد إيران مؤشراً للمزاج السعودي الرسمي تجاه الطرفين.
وعلى ما يبدو فإن الحزب يتعامل بجدية كبيرة مع الكماشة العالمية والإقليمية التي تكاد تُطبق عليه، وهو ما أظهره الخطاب الأخير للأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي ربط بين وجود الحزب وبين الاستقرار في لبنان وفي المنطقة العربية ككل. وذلك من خلال التذكير بدور الحزب "في مواجهة التكفيريين وفي دعم النظام السوري في مواجهة داعش".
بينما فصل نصر الله بين الخلاف في وجهات النظر حول التطورات الإقليمية بينه وبين باقي الأطراف السياسية اللبنانية، وأكد "دعم المسعى الرسمي لعزل الاقتصاد اللبناني عن تداعيات قانون العقوبات المالية الأميركية ضدنا". وفي الملفات الداخلية، اعتبر نصر الله أن حزبه "يريد الاستقرار والأمن والسلام للبنان ويريد إجراء الانتخابات وأن يكمل اللبنانيون حوارهم والحكومة عملها".
كما شهد الأسبوع الماضي لقاءً جمع أحد أبرز حلفاء الحزب، رئيس مجلس النواب نبيه بري، برئيس الحكومة سعد الحريري، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط. وهو لقاء زاوج بين إعادة التواصل بين الحريري وجنبلاط بعد سلسلة من الخلافات التي أعقبت تسوية انتخابن ميشال عون، رئيساً مقابل عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، وبين تجديد التوافق على إجراء الانتخابات النيابية المؤجلة في موعدها العام المقبل وإقرار الموازنة العامة. وهي خطوات من شأنها أن تُقلل فرص وقوع خلافات تقنية قد تتطور إلى خلاف سياسي واسع في ظل الضغط الإقليمي والدولي على "حزب الله".
وسبق للحزب أن واجه محاولة رسمية لبنانية لتقليص نفوذه الأمني والعسكري باحتلال العاصمة بيروت وجزء من محافظة جبل لبنان لأيام في السابع من مايو/أيار عام 2008، بالتعاون مع مجموعة أحزاب مسلحة حليفة له. وذلك بعد إصدار حكومة فؤاد السنيورة (2005 -2008) قرارين بتفكيك شبكة الاتصالات الخاصة بـ"حزب الله" وإقالة رئيس جهاز أمن المطار، قبل أن تتراجع الحكومة أمام الضغط العسكري للحزب. وتخلل هذه العملية اندلاع اشتباكات مسلحة في عدد من المناطق أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين والمسلحين، ولا تزال التبعات السياسية والاجتماعية والطائفية لهذه الأحداث قائمة حتى اليوم.