أدخل التصعيد العسكري في ليبيا وغموض المبادرات الدولية بشأنه حالة من الإرباك على الموقف التونسي، برغم ثباته واستقراره على ضرورة الحل السلمي والحوار السياسي الليبي الليبي ورفض كل تدخل عسكري أجنبي، وهو موقف لم يتغير مطلقاً برغم تغير الأوضاع والتوازنات في ليبيا وتوالي الإدارات التونسية بعد كل انتخابات، بالإضافة إلى التمسك المستمر بالشرعية الدولية.
لكن يبدو أن بعض الجهات منزعجة من بعض تفاصيل هذا الموقف، وخصوصاً مسألة الحياد الإيجابي والتمسك بالشرعية الدولية، وتفهمه على أنه انحياز إلى حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج، خصوصاً مع رفض السلطات التونسية منذ أيام استقبال وزير خارجية طبرق، محمد الدايري، رسمياً وعدم السماح له بعقد ندوة صحافية في تونس، بينما سمحت لوزير داخلية الوفاق فتحي باشاغا بذلك.
ووصل هذا الارتباك إلى مؤسسات الرئاسة التونسية بدورها، حيث تضاربت تصريحات مسؤوليها، ما اضطرها الى إصدار بيان قطعي يذكّر كل الجهات بالموقف التونسي الثابت من هذا الملف.
وأكّدت الرئاسة التونسية، مساء أمس الثلاثاء، أن "ما يتم تداوله في عدد من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الرئيس التونسي قيس سعيد استعمال المجال الجوي والبحري لتونس، لا أساس له من الصحة"، وأنه "لا الرئيس التركي طلب ذلك ولا الرئيس التونسي تعرض أصلاً لهذا الموضوع لأنه غير مطروح ولا قابل للنقاش ولم يطرح إطلاقاً".
وأشار البيان إلى أنّ ما يُروَّج "اليوم وفي الأيام الماضية من مصادر مختلفة، الهدف منه ضرب مصداقية الموقف الرسمي التونسي والإساءة إلى العلاقات التي تجمع تونس بعدد من البلدان الشقيقة والصديقة"، قبل أن يضيف: "تونس بقدر حرصها على سيادتها الوطنية والنأي بنفسها عن المحاور، حريصة في الوقت ذاته على التمسك بالشرعية الدولية وتجنيب كل شعوب المنطقة الفرقة والانقسام".
ولم تكتفِ الرئاسة بهذا البيان، إذ سبقه تصريح إذاعي هو الأول من نوعه للمُكلّف بالتسيير الوقتي للديوان الرئاسي، طارق بالطيب، أكد فيه أن "الإشاعات التي تحدّثت عن سماح سعيّد لتركيا بإرسال قواتها إلى ليبيا مروراً بتونس لا أساس لها من الصحة، وهدفها المساس بالعلاقات التونسية التركيّة"، مؤكداً أن "الرئيس قيس سعيد متشبث بالخط السيادي للدولة التونسية وحريص على عدم إقحام تونس في تحالفات خارجية".
وجاءت هذه التصريحات رداً على ما نُسب إلى رئيسة الدائرة الإعلامية برئاسة الجمهوريّة، رشيدة النيفر، من تصريحات تناقلها عدد من المواقع، وقالت إن النيفر أدلت بها لـ"سكاي نيوز عربية"، بأن "أردوغان طلب من الرئيس قيس سعيد أن تكون تونس متعاونة معه في ما يخص نقل عتاد والسماح للقوات التركية بالعبور عبر تونس".
وبحسب هذه التصريحات، قالت النيفر إن "أردوغان طلب استخدام الأراضي التونسية والمجالين الجوي والبحري لأجل التدخل العسكري في البلد المجاور"، وإن الرئيس التونسي رفض طلب أردوغان.
لكن مدير الديوان الرئاسي استبعد أن تكون النيفر قد أدلت بهذه التصريحات، مؤكداً في تصريح لإذاعة "موزاييك" التونسية، أنه لم يثبت إلى حد الآن أن تكون النيفر قد أدلت بها، وأن أي تصريحات شخصية عموماً لا تلزم الرئاسة التونسية بشيء.
وبرغم أن هذا الموقف أنهى هذا الجدل، فإنه يعكس في المقابل ارتباكاً في مؤسسة الرئاسة التونسية وسياستها الاتصالية، حيث اكتنف الغموض مواقفها من ملفات أخرى، ما استوجب إصدار بيانات متتالية ومتضاربة حول الملف نفسه، وآخرها المشاورات الحكومية ومسألة المشاركة في مؤتمر برلين حول ليبيا من عدمه. ولم توضح الرئاسة وممثلوها ما إذا كانت تونس قد دُعيت إلى المشاركة في مؤتمر برلين أو لا، وما إذا كانت قد قبلت أو رفضت، وما إذا كانت لديها شروطها لذلك، وخصوصاً أن التصريحات والبيانات بهذا الخصوص متضاربة، وهي أحياناً تنفي تلقي دعوة رسمية، بينما تتحدث عن استمرار المشاورات بخصوص هذه المشاركة ونوعيتها.
وتبدو تونس مرتبكة بوضوح جراء تأزم الأوضاع في ليبيا، حيث أكد الرئيس التونسي في افتتاح مجلس الأمن القومي، مساء أمس الثلاثاء، أن كل المؤشرات مع الأسف تشير إلى مزيد من تعقيد الأوضاع هناك، مبدياً مخاوف تونسية من تكرار سيناريو 2011 عندما تدفق أكثر من مليون لاجئ إلى تونس، تضاف إليها هذه المرة إمكانية تسلل إرهابيين، داعياً كل الدول الغربية والمنظمات الأممية إلى تحمّل مسؤولياتها في ذلك.
وللتذكير، فإن الرئيس التونسي الراحل، الباجي قايد السبسي، كان قد أكد أكثر من مرة أن تونس بقيت وحيدة في مواجهة ذلك النزوح الجماعي المفاجئ الذي لم تكن تونس مستعدة له، وأن المجتمع الدولي لم يبذل جهوداً لدعم تونس في ذلك الوقت.
رفع درجة الاستعداد الأمني والطبي
من جانب آخر، رفعت تونس من درجة الاستعداد الأمني والطبي تأهباً للتطور السريع للأوضاع في ليبيا، حسب ما كشفه اجتماع عاجل للرئيس التونسي بمجلس الأمن القومي في وقت متأخر أمس الثلاثاء، وانعقاد مجلس وزاري وتكثيف الانتشار العسكري على طول الحدود الجنوبية.
وعززت تونس من انتشار الوحدات العسكرية والأمنية على طول 461 كيلومتراً تحدّ بين محافظات الجنوب التونسي وليبيا، تحسباً لأي طارئ أمني، خصوصاً مع احتدام الصراع المسلح في سرت وفي ضواحي العاصمة طرابلس.
وكثفت السلطات التونسية الرقابة على البوابات والمعابر الحدودية الجنوبية خشية تسلل مقاتلين وإرهابيين فارين من الحرب الدائرة في ليبيا.
وأكد الرئيس التونسي، في افتتاح مجلس الأمن القومي الذي حضره رئيس حكومة تصريف الأعمال، يوسف الشاهد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ووزراء الدفاع والخارجية والداخلية والعدل والمالية وجنرالات الجيش وقيادات أمنية عليا "ضرورة تكثيف التنسيق بين مختلف الأطراف على المستوى الجهوي، بين قوات الجيش والأمن، مع الإدارات المعنية على المستوى المركزي والجهوي، وتشديد المراقبة، براً وبحراً وجواً على الحدود التونسية"، معلناً في هذا الإطار اتخاذ جملة من الإجراءات، كتفعيل منظومة المراقبة الإلكترونية ووسائل الاستطلاع الجوي وتكثيف الدوريات البحرية.
وبيّن سعيد أن الأوضاع في ليبيا تفرض ضرورة الاستعداد لاستقبال الجرحى من الليبيين وغيرهم من الجنسيات بالمستشفيات التونسية، وخصوصاً في جنوب البلاد.
وأكد سعيد خلال مجلس الأمن ضرورة التنسيق مع مفوضية شؤون اللاجئين ومع عدد من العواصم الغربية المعنية بالأوضاع في ليبيا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، لتمكين تونس من الموارد المالية اللازمة لمجابهة الأزمة المنتظرة، وخصوصاً استقبال اللاجئين، كما حدث في عام 2011.
وتُعدّ السلطات التونسية لسيناريو استقبال نحو 50 ألف لاجئ كتقديرات أولية بحسب المختصين في هذا المجال، وأعلنت وزارة الصحة التونسية حالة التأهب في مستشفى بن قردان بمحافظة مدنين جنوب شرق البلاد مباشرةً إثر الاعتداء الأخير على الأكاديمية العسكرية في طرابلس.
وفي سياق متصل أكد الشاهد، في تصريح صحافي، أن الوضع في ليبيا صعب، مؤكداً أن القوات الأمنية والعسكرية جاهزة على مدار الـ24 ساعة.
وتابع الشاهد على هامش تكريم عدد من الإطارات والأعوان للإدارة الفرعية لمكافحة المخدرات بالقرجاني، أن الوضع على الحدود في حالة تأهب قصوى ومحل متابعة.
ودعا الشاهد القوات الأمنية والعسكرية إلى المزيد من اليقظة، مشيراً إلى أن مجلساً وزارياً سينعقد حول تطورات الأوضاع في ليبيا.
وتحدث الشاهد عن حجز أسلحة وذخائر في عملية استباقية ناجحة جنوب البلاد، مشدداً في هذا الإطار على ضرورة رصد كل التهديدات المنتظرة واستباق السيناريوهات المحتملة والمزيد من إحكام التنسيق بين مختلف الهياكل والمؤسسات الوطنية والدولية المعنية ضماناً لنجاعة التدخل عند الاقتضاء لمجابهة تطور الأوضاع في المناطق الحدودية وتأمين استقبال اللاجئين في أفضل الظروف.
من جانبها أعلنت وزارة الداخلية كشفها عن خلايا إرهابية في محافظة صفاقس كانت تخطط لتنفيذ عملية إرهابية تستهدف أحد المقرات الأمنية ومنتسبيها، وذلك "بهدف ضرب مقومات الأمن العام وزعزعة الاستقرار وإرباك الوحدات الأمنية بالجهة".
وقال المحلل محمد الغواري في تصريح لـ"العربي الجديد" إن "تونس يجب أن تقوم بخطوتين في هذه المرحلة الدقيقة، تتمثل الأولى باقتراح للجمعية العامة للأمم المتحدة، بوصفها عضواً غير دائم في مجلس الأمن، بهدف نشر قوة أممية لحفظ السلام في ليبيا، بهدف قطع الطريق أمام أي قوة أجنبية من جهة، ولفرض السلام وحماية الأبرياء في طرابلس، وتكون وحدات من الجيش التونسي والجزائري حاضرة في ليبيا تحت مظلة الأمم المتحدة، وهذا من أجل إنفاذ السلام".
وفي ما يخص الخطوة الثانية، أضاف أنه يجب الإعداد الصحي واللوجستي مع المنظمات الأممية والإنسانية والدول المستعدة لإغاثة اللاجئين حتى لا يتكرر سيناريو مخيم الشوشة في 2011 وتدفق أكثر من مليون لاجئ ليبي وآلاف من جنسيات أخرى وسط ظروف إنسانية وصحية صعبة.