تعابير فضفاضة خلت من أي موقف حاسم رافض للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. كما أن حديثها بشأن "عدم ملاءمة التوقيت" ينطوي على موقف يحاول تصوير أن مسألة التطبيع مع الاحتلال ستحدث بحكم الأمر الواقع بعد حين. وما يعزز المخاوف بشأن ما قالته الوزيرة، أن حكام السودان حالياً لم يصدروا أي موقف مناقض لما قالته لرسم خط أحمر واضح يمنع تكرار هذه العبارات الفضفاضة. ولا ينفصل ذلك عن حقيقة أنّ المكون العسكري، الذي يشكل طرفاً رئيسياً في الحكم اليوم، اختار أن يكون ضمن المحور السعودي الإماراتي المصري الأكثر تطبيعاً مع الاحتلال في السنوات الأخيرة، بل وتحول إلى أداة للضغط على الفلسطينيين لتصفية قضيتهم والقبول بما يسمى "صفقة القرن" الهادفة لتقويض ما تبقى من حقوقهم. والأهم أن دولاً عربية عدة بدأت بهذه العبارات الفضفاضة التي قالتها وزيرة الخارجية السودانية بعناية مدروسة لينتهي بها الحال كدول مطبعة سرّاً ثم جهاراً مع محاولة ابتداع مبررات لذلك.
وتناقض تصريحات وزيرة الخارجية موقف الشعب السوداني المعروف بانحيازه لفلسطين وحقوق الفلسطينيين والذي يعتبر بوضوح أن إسرائيل قوة احتلال، والذي يرى في مثل هذه الدعوات طعنة في خاصرة الثورة السودانية التي انطلقت رفضاً للظلم، ما يجعل أي حديث عن التطبيع على هذا المستوى يشكل أحد أكثر أوجه الثورات المضادة خطورة والذي يهرول أصحابه إلى التحالف مع الاحتلال في وقتٍ يمعن في قضم الأراضي العربية المحتلة سواء الفلسطينية أو السورية، ويستمر الحصار على قطاع غزة وقتل سكانه. ويبدو أن سؤال التطبيع سيكون حاضراً في المشهد السياسي، خلال الفترة المقبلة، لا سيما بعد حديث وزيرة الخارجية السودانية، كما كان حاضراً خلال عهد عمر البشير.
وشملت قائمة الداعين في مراحل سابقة لإقامة علاقات مع إسرائيل في السودان أسماء شخصيات سياسية بارزة وأكاديميين وصحافيين، مثل نائب رئيس الوزراء السابق مبارك الفاضل المهدي، والأكاديمي حسن مكي، ووالي ولاية القضارف الأسبق كرم الله عباس، إضافة إلى رئيس تحرير صحيفة ألوان، حسين خوجلي.
وبعد ولادة التشكيل الحكومي الجديد، برزت أصوات أخرى خجولة تدعو للتطبيع مع إسرائيل، على غرار فتح الرحمن فضيل، القيادي بحركة الإصلاح الآن، وهي حركة محسوبة على التيار الإسلامي، الذي يتحدث عن أهمية بناء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، مشيراً إلى أن حديث وزيرة الخارجية مجرد حديث سياسي دبلوماسي قصدت به نفي إشارات سابقة منها حول إمكانية التطبيع مع إسرائيل. لكن هذه المواقف المجاهرة بالتطبيع رفضها سياسيون ومواطنون كثيرون.
يقول زهير الدالي، وهو قيادي بلجان المقاومة في منطقة شرق النيل في الخرطوم، في حديث مع "العربي الجديد": "أنا على المستوى النفسي غير قادر على تقبل أي فكرة تطبيع مع إسرائيل، على الرغم من قناعاتي بأهمية تقنين علاقات السودان الخارجية بما يخدم مصالحنا الجوهرية". ويضيف: "رفضي للتطبيع يقوم على ذات مبدأ رفضي للنظام السابق، فنحن ضد الظلم الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين وضد سلب أراضيهم وممتلكاتهم وحرياتهم وحقوقهم، وأهمها حقهم الأصيل في بناء دولتهم ذات السيادة الكاملة، بالتالي حينما يفكر أحد في الاعتراف بإسرائيل، يُعد ذلك طعنة في خاصرة الثورة السودانية لأنني كما قلت المبادئ واحدة". من جهته، يشدد معتز يوسف، وهو ناشط في الحراك الثوري، في حديث مع "العربي الجديد"، على أنه "بالنسبة لنا كمجتمع، نرفض رفضاً قاطعاً أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، وكلنا ندرك أن إسرائيل لا تقدم شيئاً إلا لصالح أجندتها وكلنا نعلم المخططات الإسرائيلية"، متحدثاً عن رغبتها في إحلال أنظمة موالية لها.
سياسياً، يرى السفير السابق في وزارة الخارجية السودانية، الطريفي كرمنو، أن موقف السودان الدولة، وموقف الشعب، ثابت من القضية الفلسطينية ورفضه للاحتلال الإسرائيلي الذي فرض أجندته بالقوة مخالفاً بذلك كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، متوقعاً أن تجد أي خطوة في اتجاه التطبيع غضباً شعبياً عارماً وغير محدود العواقب.
ويوضح كرمنو، في حديث مع "العربي الجديد" أن الولايات المتحدة، التي تحاول تسويق خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلامياً بـ"صفقة القرن"، لن تستطيع بأي حال من الأحوال تمرير المشروع على السودان، نتيجة المواقف الرسمية والشعبية.
وحول الجدل الدائر في المشهد السياسي بعد بروز دعوات للانسحاب من الجامعة العربية والإبقاء فقط على الانتماء الأفريقي، يقول كرمنو، إن السودان بلد لديه عمقه العربي والأفريقي، وهذا ما يحدد طبيعة علاقاته الخارجية. ويعتبر أن الدعوة للانسحاب من أي محفل إقليمي بذريعة الهوية فيها الكثير من المغالاة، مطالباً ببقاء السودان في كل المنظومات العربية والأفريقية والدولية.
أما الأمين عبد الرازق، الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي، فيؤكد أن حزبه ضد أي شكل من أشكال العلاقة مع إسرائيل، مبيناً أن ذلك المبدأ هو الذي يجمعهم مع أحزاب أخرى غير متفقين معها أيديولوجياً، مثل أحزاب الشيوعي والبعثي والناصري، مبينا أنهم كلهم اجتمعوا على عدم الاعتراف بإسرائيل كدولة مغتصبة لافتاً إلى أن الخرطوم عرفت في السابق بعاصمة اللاءات الثلاث ومن بينها لا للتطبيع الذي رفع كشعار في أشهر قمة عربية نظمت في الخرطوم.
ويوضح عبد الرازق، في حديثه مع "العربي الجديد" أن لا مجال للتطبيع إلا بعد أن تخرج إسرائيل من حدود 67 ونيل الفلسطينيين حقوقهم، مستبعداً تماماً ذهاب حكومة عبد الله حمدوك الجديدة في هذا الاتجاه.
ويقلل من قيمة الدعوات للتطبيع استناداً إلى محدد المصلحة، لافتاً إلى أن الدول التي طبّعت مع إسرائيل مثل مصر والأردن، لم تجنِ أي ثمار نتيجة مغامرتها تلك، حتى الدول الأفريقية التي فعلت ذات الأمر لم تحصل على فائدة واحدة بل إن التغلغل الإسرائيلي في القارة السمراء كان وبالاً عليها. وبشأن نقاش الهوية والنزاع ما بين الانتماء العربي والأفريقي، يوضح عبد الرازق أن مثل هذه المواضيع ستحسم من خلال مؤتمر دستوري تخطط له القوى التي تحكم الآن، مشيرا إلى أنه ليس للحكومة الحالية أي سلطة في التقرير بهذا الشأن إلا بعد إجازة دستور دائم للبلاد يتم فيه استفتاء الشعب، ويحدد بوضوح هوية السودان.
من جهته، يرى محمد وداعة، القيادي في تحالف قوى الحرية والتغيير، أن حديث وزيرة الخارجية فاجأه مثل غيره من السودانيين، وكان على الوزيرة في ردها على سؤال العلاقة مع إسرائيل على الأقل التمسك بقرارات الجامعة العربية والمواقف المعلنة للبلاد في هذا الشأن. ويرى في حديث مع "العربي الجديد"، أن مثل تلك الملفات السياسية تضع ملامحها الحكومة مجتمعة بمستويات السلطة الثلاثة، السيادي والتنفيذي والتشريعي، مؤكداً أن موضوع العلاقة مع إسرائيل لا يشكل أولوية للحكومة.
ويشير وداعة إلى أن التصرف في هذه الملفات الخطيرة يهدد سلامة ووحدة قوى الحرية والتغيير نفسها، وهي الحاضنة السياسية للحكومة، وهي مواضيع خلافية بامتياز، وليست من الأولويات. وطوال الحراك الثوري في السودان وحتى سقوط نظام عمر البشير وتداعياته اللاحقة، لم يكن موضوع التطبيع مع إسرائيل مطروحاً من أية جهة سياسية منضوية تحت لواء تحالف قوى الحرية والتغيير التي قادت دفة الثورة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وشكلت مجلس الوزراء، وتقاسمت مع قادة الجيش السوداني، عضوية مجلس السيادة، وستحصل لاحقاً على 67 في المائة من عضوية البرلمان الانتقالي.
ويكاد يكون نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري (1969 -1985) الأكثر "وقاحة"، حينما ثبت تورطه في العام 1984 في التعامل المباشر مع إسرائيل بتنسيق عمليتي "موسى وسبا" واللتين تم خلالهما نقل عشرات آلاف من اليهود الفلاشا من إثيوبيا، عبر الأراضي السودانية ومنها إلى إسرائيل. وحتى نظام البشير وجد نفسه في أكثر من مرة في منصات الهجوم، بسبب ما قيل عن علاقات سرية بينه وبين إسرائيل ولو عبر طرف ثالث، رغم أنه رفع شعارات معادية لأميركا وإسرائيل التي اتهمت في أكثر مناسبة، النظام بتزويد حركة حماس بالسلاح عبر البحر الأحمر، ما دفعها لتوجيه ضربات جوية لأهداف محددة، مثل اغتيال رجل أعمال في مدينة بورتسودان بتفجير سيارته عبر صاروخ في العام 2012 أو تدمير مصنع اليرموك في العام 2012.