ما كان لأزمة كورونا أن تمرّ من دون أن تخلط أوراق الكرملين وتعطّل مشروع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي من شأنها "تصفير" عدد ولاياته الرئاسية، ليكشف الفيروس أيضاً جانباً من الخلل في هرم السلطة بروسيا، لجهة توزيع الصلاحيات بين مختلف مستوياتها، وزيادة سوء التفاهم مع المجتمع. ومع إطالة أمد وباء كورونا ونظام العزل الذاتي وما ترتب عليه من زيادة عدد العاطلين عن العمل، لم يسلم بوتين من تراجع نسبة تأييده، إذ أظهر استطلاع أجراه مركز "ليفادا"، نُشرت نتائجه في وقت سابق من مايو/أيار الحالي، أن 59 في المائة فقط من المستطلعة آراؤهم عبّروا عن استحسانهم لأداء الرئيس، في أدنى نسبة استحسان منذ توليه زمام السلطة في البلاد عام 2000، مما عزز الشكوك في واقعية ترشح بوتين لولاية رئاسية جديدة عام 2024.
في هذا الإطار، اعتبر مدير عام "مركز المعلومات السياسية" في موسكو، أليكسي موخين، أن تراجع نسبة تأييد الرئيس مؤشر مقلق للكرملين، مرجحاً في الوقت نفسه أنه لم يعد هناك مجال للعدول عن إجراء الاستفتاء، ومشيراً إلى أن تمرير التعديلات الدستورية لا يعني ترشح بوتين للولاية الخامسة تلقائياً بعد 4 سنوات. وقال موخين في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "هذا الأمر يشكّل توجهاً جديداً ومقلقاً للكرملين في تراجع نسبة تأييد الرئيس في وقت الأزمة، بعد أن كانت ترتفع أثناء الأزمات السابقة. ولكن الاستفتاء سيجري في كل الأحوال، لأن تمرير التعديلات من دونه سيشكّل تعارضاً مع موقف المحكمة الدستورية".
وحول توقعاته لموعد الاستفتاء ونتائجه المحتملة، قال: "من المرجح أن يُجرى الاستفتاء خلال الفترة بين 15 يونيو/حزيران و15 يوليو/تموز المقبلين، ليشكل علامة انتهاء الحجر الصحي. ومن المرجح أن يتم تبني التعديلات الدستورية بنسبة عالية من الأصوات، كونها تنص على حزمة من الضمانات الاجتماعية، فمن سيرفضها؟ صحيح أن هناك نسبة من الشباب من أصحاب التوجهات الليبرالية تعارض التعديلات، ولكنها فئة غير معبّأة سياسياً، كما أن نسبتها بين إجمالي المصوتين لا تزيد عن 2 أو 3 في المائة".
ومع ذلك، قلل موخين من توقع ترشح بوتين لولاية الخامسة عام 2024 على الرغم من أن النسخة المعدلة من الدستور ستسمح له بذلك، مشيراً إلى أن "بوتين أكد مراراً أنه يعتزم الخروج من الرئاسة، ولكن إعلانه ذلك الآن كان سيعني توقف المسؤولين الحكوميين عن العمل وتركيزهم على الاستعداد للعمل مع خليفته. كما من المرجح ألا يغادر بوتين منظومة السلطة بشكل نهائي، بل قد يشغل منصباً إدارياً مثل رئيس الوزراء، خصوصاً أنه يملك مثل هذه الخبرة، وتحوّل حالياً، في الواقع، إلى قيادة الحكومة بنفسه بنظام التحكم اليدوي". ومنذ تفشي فيروس كورونا في روسيا نهاية مارس/آذار الماضي، أصبح بوتين يعقد اجتماعات منتظمة بنظام مؤتمر الفيديو مع أعضاء الحكومة وحكام الأقاليم، ويعلن خلالها بنفسه عن تمديد إجراءات الحجر الصحي ودعم فئات السكان وقطاعات الأعمال الأكثر تضرراً من التداعيات الاقتصادية للوباء.
من جهتها، اعتبرت الخبيرة في مركز "كارنيغي" في موسكو، تاتيانا ستانوفايا، أن روسيا تقترب من الوضع الذي سيتم فيه حرمان السكان بشكل نهائي من حق اتخاذ القرار، إذ لم تعد لدى السلطة موارد وإرادة سياسية لإقناعهم. وفي مقال بعنوان "مضاعفات الفيروس. ماذا ينتظر النظام الروسي بعد الحجر الصحي؟"، نُشر في موقع مركز "كارنيغي"، لفتت ستانوفايا إلى أن تفاؤل بوتين عند إعلانه عن انتهاء عطلة كورونا اعتباراً من 12 مايو الحالي، يتعارض مع تصريحات عمدة موسكو، سيرغي سوبيانين، حول ارتفاع عدد المصابين، مما يعكس سوء التنسيق وانعدام التوازن داخل منظومة السلطة الروسية.
وأرجعت كاتبة المقال السبب الرئيسي لهذا التباين إلى "أزمة المسؤولية السياسية"، مضيفة أنه "حين ابتعد بوتين عن اتخاذ القرارات الروتينية وفوضها للطبقات الأدنى من جهاز الدولة، فإن الحكومة أظهرت عجزها عن أخذ زمام المبادرة والتصرف بشكل مستقل، وهذه صفة من صفات التكنوقراط المهيمنين على مجلس الوزراء". وأشارت ستانوفايا إلى أن "الفارق بين السياسي والتكنوقراط يكمن في أن أولهما يسترشد بالدعم المجتمعي، وثانيهما برأي المدير"، مما يجعل النتيجة الرئيسية للعمل هي "تقرير معد بشكل جيد يتيح التلاعب بالأرقام والتستر على الفشل".
ورأت الخبيرة الروسية أن الأزمة الراهنة بيّنت أن عمود السلطة القائم في روسيا يمكنه دعم الوحدة السياسية للبلاد فقط لا الإدارية، ولا يؤدي أي مهمة سوى تشكيل المجال السياسي الموالي للكرملين، بدءاً من المستوى الفيدرالي وصولاً إلى المحلي. وحذرت ستانوفايا من أن الأزمة الراهنة واسعة النطاق تفاقم سوء التفاهم بين السلطة والمجتمع وقد تسرّع عملية تآكل النظام، ملخصة الواقع الروسي اليوم في عجز الكرملين عن ضمان أي شيء، بما في ذلك إعادة انتخاب بوتين في عام 2024 ما لم يتجه إلى الاستنساخ الكامل للنموذج السياسي الصيني.