المناظرة الرئاسية الفرنسية: ميلانشون وماكرون يتقدّمان وغياب السياسة الخارجية

22 مارس 2017
لم يسجل أي مرشح مفاجأة في طروحاته(باتريك كوفريك/فرانس برس)
+ الخط -


حقّق المرشحان اليساريان، جان لوك ميلانشون وبونوا هامون، في المناظرة الأولى، قبل خمسة أسابيع من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية، والتي جمعت أهم خمسة مرشحين من بين المرشحين الأحد عشر، اختراقاً واضحاً، انعكس إيجاباً فقط لمصلحة ميلانشون في استطلاعات الرأي لعشرة ملايين فرنسي شاهدوا "المناظرة الكبرى" التي دامت 3 ساعات ونصف الساعة. فحلّ ميلانشون بحسب درجة الإقناع ثانياً مع عشرين في المائة بعد المرشح الوسطي إيمانويل ماكرون (29 في المائة) بينما جاء كل من مرشح اليمين الجمهوري فرانسوا فيون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان ثالثَين مع 19 في المائة، بينما لم يستطع هامون إلا إقناع 11 في المائة من الملايين العشرة المستطلعين.

وأظهر ميلانشون، من جديد، خطابيته المنبرية في وجه خصميه اليمينيَيْن، فيون ولوبان، وفي مواجهة ماكرون. وعبّر، في كثير من الارتياح والسهولة والبيداغوجية من دون شعبوية، كما هو شأنه في لقاءاته الجماهيرية، عن أهم بنود برنامجه الانتخابي، في ما يتعلق بمواضيع التعليم والمهاجرين وطالبي اللجوء بمنظار إنساني أو الطاقة أو العلمانية "القوية"، ولكن "التي لا تبرر مهاجمة أي دين، وبشكل واضح الإسلام ولا الملحدين أو اللادينيين وهم 60 في المائة من الفرنسيين".

ولم يتأخر بونوا هامون عن الركب، خصوصاً أنه يعرف خصمه المباشر والأشد خطورة، المتمثل في إيمانويل ماكرون، الذي استطاع إغواء قسم كبير من اليسار الاشتراكي. لهذا السبب، كان هامون حاضراً، وحاول مواصلة ما أنجزه في آخر لقاء جماهيري في باريس، بعد تردد وإخفاقات ومعارك جانبية وداخلية مع "يمين الحزب الاشتراكي" و"يساره" نغَّصت عليه حملته وشوشت عليها طيلة أسابيع. ولم يفوّت الفرصة، وإن كان ذلك بخجل برأي كثيرين، لانتقاد لوبان وخطابها "المثير للغثيان" و"متاجرتها الانتخابية بقضايا الهجرة". أما قضايا السياسة الخارجية، فقد كانت الضحية الأكبر لناحية الوقت المخصص لها، إذ لم يتعد النقاش حولها الدقائق الـ15 ربما، وكان لافتاً غياب كلمة فلسطين طيلة ساعات المناظرة الكبيرة، في حين انحصر حديث السياسة الخارجية في المنظور الأمني.

هكذا، لم يسجل أي مرشح مفاجأة في نظرته للعناوين العريضة: فيون معجب جداً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا بديل بالنسبة له عن نظام بشار الأسد لمحاربة الإرهاب. لوبان موقفها مشابه وتعتبر أن "البريكسيت" حدث رائع (كررت المصطلح عشر مرات ربما في إطار تعهدها بالخروج من الاتحاد الأوروبي فور انتخابها رئيسة)، وميلانشون يرغب بإعادة النظر بالحدود الأوروبية في الدول الخارجة من رحم الاتحاد السوفييتي، وبالخروج من حلف شمال الأطلسي، وبجعل الاتحاد الأوروبي مشروع سلام لا حرب. بينما هامون كان الأقرب للنظرة الرافضة للقراءة الروسية-العربية الرسمية لموضوع الإرهاب وتنظيم "داعش"، في حين بقي ماكرون، كعادته، يأخذ نصف جملة من اليسار، ونصفاً آخر من اليمين، وهو من يمكن تسميته بمرشح الاتحاد الأوروبي، متعهداً بتحالف دائم مع ألمانيا وباقي شركاء الاتحاد في السراء والضراء.

وبالطبع كان الشاب ماكرون يخوض أول لقاء من هذا النوع من المناظرات، والوقوف في مواجهة خطباء معظمهم من المحنَّكين. وبالفعل استطاع أن يترجم، من خلال اهتمامه بالشكل و"الصورة" والمبالغات، عبارة الفيلسوف بول ريكور التي تفيد بأن "شكل الخطاب يؤثر أحياناً أكثر من مضمونه"، ولأن "الجمهور لا يتذكر إلا ما يريد تذكره".

صحيح أن بعض مواقف ماكرون يمكن أن تنقلب عليه، على الأقل إعلامياً، كتصريحاته عن الجزائر، أو مواقفه المتسامحة مع "البوركيني"، وهو ما سارعت مارين لوبان لاستثماره، ما جعله يرد عليها بقوله: "استفزازاتك تفرق المجتمع وتخلق أعداء الجمهورية"، ودافع عن أكثر من 4 ملايين فرنسي مسلم، "أغلبيتهم الساحقة ضد كل انزواء طائفي". كما حاول الدفاع عن قضية تمويل حملته التي أثارها بونوا هامون، ولكن ماكرون، على الرغم من مظهر وجهه البريء والطفولي، كان قادراً على الرد، متعهداً بأنه "لن أكون تحت تأثير أي مموّل". وفي انتقاد لاذع للعلاقات بين مارين لوبان ونظام بوتين، شدد ماكرون على أنه "لن يعقد أي معاهدة مع بوتين".


أما المرشح اليميني فرانسوا فيون، المقيد بالفضائح التي يجرها من خلفه (رغم أن منافسيه تحاشوا إثارة هذه القضايا بشكل مباشر)، فظهر وهو يغالب كي يقنع المشاهد بجدية برنامجه على اعتباره "صاحب الخبرة والوحيد القادر على إعادة مجد فرنسا وقوتها". ولكنه كان يرى تنافساً كبيراً من جانب مارين لوبان، في توجهه اليميني. ولهذا السبب، كان من حين لآخر، يُشهر مخالب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، خصوصاً حين دافع عن أطروحته حول خفض سن البلوغ القانوني القضائي إلى 16 سنة، وهي من مقترحات ساركوزي القديمة. وراح المرشح اليميني يتهم أغلبية طالبي اللجوء في فرنسا بأنهم "هاربون من الفقر وقادمون من كل بقاع الأرض"، وهو ما تكذبه الإحصاءات الفرنسية الرسمية التي تُجمع على أن معظم اللاجئين قادمون من أراضي نزاع وحروب واضطهاد، كسورية والعراق وأفغانستان وإريتريا ونيجيريا والصومال وغيرها.
ولأن فيون يريد أن يظهر بمظهر الفرنسي الذي يشتغل، في انتقاد لقانون العمل السابق (35 ساعة أسبوعياً) الذي أرسته مارتين أوبري قبل سنوات، وفي انتقاد مباشر لبرنامج هامون، فقد صرح أن "الفرنسيين يشتغلون بدرجة أقل مقارنة بنظرائهم الأوروبيين"، وهو رأي مغلوط، لأن الفرنسيين، بشكل عام، وفي كل القطاعات، يأتون في المرتبة العاشرة، أوروبياً، في حين أن الفرنسيين، من حيث المردودية، يتجاوزون الألمان والبريطانيين. ولأنّ كل شيء صالح في حملته، وفي هدم واضح للمنجزات الاشتراكية، قال فيون إن فرنسا هي من أكثر البلدان مديونية، لكن الأمر غير صحيح، فثمة دول متقدمة كاليابان والولايات المتحدة توجد في وضعية أسوأ من فرنسا لناحية المديونية.

في المقابل، فإن مارين لوبان، الحريصة على الظهور بمظهر القائد السياسي، المتزن، بعيداً عن سقطات وعثرات والدها جان ماري لوبان، فقد تفنّنت في الأشياء التي تتقنها، منذ دخولها المعترك السياسي، وهي تضخيم الأرقام، أرقام المهاجرين، وأرقام العاطلين عن العمل، فتحدثت عن 7 ملايين عاطل عن العمل (مازجة بين مستويات متعددة، بين من يعمل بصفة جزئية ومن يصبو لعمل إضافي، ومن هو في حالة مرض)، وهو رقم فيه مبالغة كبيرة، حسب "المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية" مع رقم 2.8 مليون عاطل عن العمل، في آخر فصول 2016. أما العدائية الصريحة لكل أجنبي، فترجمتها بوضوح بثنائية الأمن-الإسلام، وبعبارة "سأمنع كل مهاجر من دخول فرنسا".

ثم حضر في مداخلات لوبان التهويل من أعداء وهميين يتربصون بفرنسا ويريدون انحطاطها، وتحدثت عن انعدام الأمن في فرنسا. ومثلما استفاد فيون من الصمت المتعمد من باقي المرشحين حول متاعبه مع القضاء (وهو صمت خرقه ميلانشون بتسميته المتهمين بالفساد مباشرة أي فيون ولوبان)، استفادت لوبان، منه أيضاً، على الرغم من أنها، وخلافاً لفيون، رفضت الاستجابة لاستدعاءات القضاء، إلا أنها لم تمنع نفسها من مؤاخذة ماكرون على علاقاته التي تراها ملتبسة مع عالم المال، والتي حاول ماكرون، في احتكاك لم يَخْلُ من بعض العنف اللفظي، توضيحها ووضع حدّ نهائي لها.