عبر الهاتف، باع محمد سعدون الشمري (51 عاماً) منزله ومزرعته في بلدة اليوسفية جنوبي بغداد بعد نحو ثلاث سنوات على فراره إلى تركيا، خوفاً من هجمات المليشيات والقوات الحكومية. ويبرر ذلك بقوله إنه لا يريد أن يفقد آخر أولاده بعد فقدانه اثنين، تم اعتقالهما، ووجدهما جثتين هامدتين في أطراف البلدة، بعد يوم واحد من اختفائهما.
المئات من العائلات الأخرى تركت منازلها ومزارعها في حزام بغداد خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وفرّت إلى خارج العراق أو إلى إقليم كردستان. وسبب ذلك يكمن في أن هناك، وبحسب أعضاء في البرلمان العراقي وزعماء قبائل، عمليات تهجير واسعة تتم على أسس طائفية في حزام بغداد. وتتم جميعها تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، ويتورط بها ضباط كبار وزعماء مليشيات.
الاعتقال ثم القتل أو حرق المنازل والمزارع والاعتداء على النساء والأطفال وتلفيق التهم، كلها وسائل لم تعد تقتصر على المليشيات فقط بل هناك قوات حكومية متورطة بها. وتوجه اتهامات لضباط في الفرقة السادسة بالجيش العراقي والشرطة الاتحادية، وسط اعتقاد بأن الهدف مما يجري يتمثل في إفراغ تلك المناطق من أهلها.
وحزام بغداد مصطلح يطلق على المناطق المحيطة بمركز العاصمة من الجهات الأربع، وهي ذات مكون ديني واحد يغلب عليهم طابع الريف، ويعتمدون على الزراعة وتربية الحيوانات في معيشتهم. وكانت مناطقهم تعرف بأنها سلة بغداد الغذائية. إلا أنها لم تعد كذلك الآن، إذ توقفت الزراعة بشكل شبه كامل في هذه المناطق، ما دفع إلى مزيد من عمليات استيراد الفاكهة والخضار والأسماك وباقي المواد الغذائية من إيران وتركيا.
يقول ضابط عراقي لـ"العربي الجديد" إنه "تم تقليص الجهد الاستخباراتي في بعض مناطق حزام بغداد، ليس لأنها باتت آمنة بل لأن الكثافة السكانية فيها انخفضت لأقل من 50 بالمائة عما كانت عليه في السابق". ويوضح من داخل مبنى وزارة الداخلية العراقية، أن "الجثث التي تعود لفلاحين، يتم العثور عليها بين يوم وآخر دون أن تكلف قوات الأمن فتح تحقيق في تلك الحوادث"، ومشيراً إلى أن ما يجري هو "رعب كافٍ لفرار (السكان)"، وفق تعبيره.
ويقول الشيخ سعد مفرح العبيدي إن عمليات الاعتقال العشوائية تتم بشكل يومي ليلاً أو نهاراً وتصاحبها عمليات ضرب وإهانة وشتم. ويلفت إلى أن الاعتقال يستمر لساعات أو أيام، وإما أن يطلق سراح المعتقل أو يقتل. ويضيف أنه "في حالة وجود هجوم إرهابي كبير في بغداد، وإذا كان هناك ضغط شعبي على الحكومة لكشف الجناة، يتم سحب عدد من المعتقلين وإجبارهم على الاعتراف بأنهم المسؤولون عن هذا الهجوم، ثم يظهرون بسرعة على قناة الحكومة، وينتهي كل شيء"، وفق قوله. ويضيف أنه في قرية الذهب الأبيض غرب بغداد، جاء الجيش ذات مرة ليلاً، واعتقل رب أسرة واعتدى على زوجته ضرباً، وبعد يوم واحد عثروا على جثته قرب مغسلة صوف الغنم. ويتابع العبيدي أنه غادر المنطقة على أثر هذه الحادثة، معتبراً أن المخطط هو "تغيير تركيبة حزام بغداد طائفياً لأسباب يعلمها الجميع، وفق قوله".
وتنفّذ مليشيات "حزب الله" العراقية و"بدر" و"العصائب" و"النجباء" التي تسيطر على جميع مناطق حزام بغداد بمشاركة "لواء المثنى" التابع للفرقة السادسة في الجيش العراقي وأفواج الشرطة الاتحادية، عمليات التهجير بالوقت الذي يقوم تجار ورجال أعمال مجهولين بشراء مزارع وحقول ومنازل من يتم تهجيره بأسعار رخيصة جداً. ويبلغ سعر المنزل في مدينة أبو غريب مثلاً نحو 60 مليون دينار (50 ألف دولار). إلا أن منازل المهجرين حالياً لا تباع إلا بعشرة أو خمسة عشر مليون مع المحتويات المنزلية، إذ إن المسؤولين عن التهجير لا يمنحون المُهَجّرين فرصة لنقل ما لديهم.
ويقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، حامد عبيد المطلك، لـ"العربي الجديد"، إن "كل ذي عقل يعلم بما يجري في حزام بغداد من خروق". ويضيف "هناك مليشيات تقوم بعمليات سلب ونهب وحرق لمنازل المواطنين واعتقال وقتل، وهذه المليشيات خارجة عن القيم الإنسانية وعن روح المواطنة. لذلك يجب على الحكومة أن تمنع المليشيات وتحيلهم إلى القضاء، وتقوم بمحاسبة هؤلاء، وإلا تصبح عملية التحرير، وعملية إدارة الدولة، في فوضى. وهذه الفوضى لا تخدم الوحدة الوطنية، ولا تخدم الإنسان، ولا تخدم الإنسانية، وإنما تضر بمصالح المجتمع حاضراً ولاحقاً، لذلك يجب على الحكومة أن تضع حداً لهذه التجاوزات"، وفق قوله. ويتابع أن "هذه المليشيات تسير بغطاء قانوني للأسف وهو قانون الحشد الشعبي". ويؤكد معارضته لهذا القانون وأنه لم يوقع عليه "خوفاً من هذه التجاوزات"، حسب تعبيره. ويضيف أنه "لذلك يجب على الحكومة أن تمنع المليشيات التي تقوم بهذه التجاوزات باسم الحشد، وأن تخضع الحشد لسيطرة الدولة". ويشير إلى أن "الحشد تخضع لمراكز قوى عديدة ولأحزاب عديدة، وربما فيهم أيضاً أشخاص يخضعون لأجندات خارجية، وهذا يضر مصلحة العراق أولاً وأخيراً ويتعارض بشكل كامل مع مبدأ المواطنة والوطنية، لذلك يجب أن يوضع حد لهذه الأعمال"، على حد قوله.
وحول اتهامات التهجير والتغيير الديمغرافي يقول: "شيء مقزز أن يفعل الإنسان ذلك، ويطرد أشخاصا من منزلهم بسبب طائفتهم أو دينهم والأسوأ من ذلك قتلهم". ويضيف أن "القوات العراقية الرسمية براء من ذلك"، على حد وصفه، مستدركاً أن "هناك جهات لا تمثل إلا نفسها متورطة بمشاريع كهذه"، ومؤكداً أنه "في حال اكتشف تورط عناصر أو ضباط من الجيش فلن نرحمهم"، على حد تعبيره.
من جانب آخر، يحذر النائب في البرلمان العراقي عن محافظة ديالى، رعد الدهلكي، في بيان، من مغبة عمليات التهجير والخطف والجثث المغدورة التي عادت أخيراً في عدد من أنحاء محافظة ديالى شرقي بغداد. ويربط عودة هذه الجرائم بوجود مصالح شخصية تتحكم في هذه المحافظة. ويقول إن هناك معلومات وردت تشير إلى عودة عمليات التهجير والخطف والجثث المجهولة في أقضية المقدادية وبلدروز وبعقوبة وكصيبه، إذ تم قبل أيام اختطاف شاب من المقدادية وبعدها تم خطف آخر في سوق بعقوبة وجرت مساومة ذويهما مقابل إطلاق سراحهما ولكن تم العثور على أحدهما مقتولاً بعد دفع الفدية، بحسب تأكيده. ويضيف أن هناك حالات اختطاف أخرى حدثت في بلدروز.
أما ناحية كصيبه، فكان لها حصة التهجير مما أثار رعب الأهالي بعد فترة من الهدوء النسبي الذي شهدته مدن هذه المحافظة، وفق قوله. ويتابع الدهلكي أن تلك "العمليات الإجرامية التي يراد اليوم تعمد عودتها، هي من أجل ممارسة الضغط باتجاه استبدال بعض القادة الأمنيين في هذه المحافظة لتحقيق مصالح شخصية، في حين أن تلك الضغوط واستبدال تلك القيادات لا تصب بمصلحة أمن المواطن ولا بأمن المحافظة"، وفق قوله. ودعا الدهلكي رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، إلى دعم تلك القيادات للحفاظ على أمن المحافظة، وهو الأمن الذي بدأ يعود إليها وبشكل تدريجي، وفق تعبيره.