وتساءل خبير علم الاجتماع السياسي حسان موري في حديثه لـ"العربي الجديد" عن حقيقة الظاهرة التي تقف عندها تونس، وما إذا كان المشهد السياسي يحيا على وقع التغيير بسبب اكتساح المستقلين وصعودهم أم أنه جامد أمام تراجع دور الأحزاب، فضلاً عما إذا كنا أمام ظاهرة سياسية جديدة أم أن الأمر مرتبط بتأثيرات البنية الاجتماعية على الحياة السياسية، بشكل يقود إلى فقدان الثقة في الأحزاب السياسية بسبب تردي الوضع العام.
ولفت موري إلى أنه لا يمكن الحديث عن نهاية الأحزاب وسقوط مفكريها ومحركاتها، لأن الأحزاب السياسية مطّلعة على مخرجات تردي الواقع الاجتماعي والاقتصادي وتأثيراته على الحياة السياسية وتوجه الناخبين للبحث عن بدائل للحكم بدلاً من الشخصيات المتهالكة والوجوه المستهلكة. دفع هذا الأمر أحزابا عدة إلى التنكّر تحت غطاء المستقلين من خلال تقديم مرشحين يحملون فكرهم وبرنامجهم ولكن من خارج أحزابهم، كما تعمد الأحزاب إلى دعم المستقلين كشكل آخر من أشكال الحكم والعمل بالوكالة. وأوضح الخبير أن هذه المؤشرات تقلّص من مسلّمات استقلالية المرشحين المستقلين، في حال لم يعتنق المستقلون بالأساس أفكار وأيديولوجيات ومرجعيات المحازبين.
وفسّر الخبير صعود المستقل قيس سعيّد إلى الدور الثاني وامكانيات صعود مستقلّين وحيازتهم الأغلبية البرلمانية، بالمسار الانتخابي منذ الثورة، مشيراً إلى أن الشعب اختار في أول انتخابات تشريعية منظومة الثورة من الأحزاب الثورية والشخصيات والمناضلين، على غرار حزب النهضة والمؤتمر والتكتل، فضلاً عن اختيار شخصيات مناضلة على غرار نجيب الشابي ومي الجريبي وأحمد براهيم وغيرهم. وبعد أن قيّم الشعب نتيجة الانتخابات الأولى، انتهى إلى ضرورة تغيير منظومة الحكم التي بدا له أنها فشلت بسبب انعدام الخبرة والتجربة، فانتخب في عام 2014 منظومة التجمعيين والدستوريين، بعد أن سوّقوا بأنهم يمتلكون مفاتيح الدولة ومقاليد استمرارها، مع المحافظة على النفس الثوري داخل البرلمان. ولكن الشعب لم يرضَ عن اختياره بسبب تردّي مستوى العيش وتفاقم الأزمة الاجتماعية والتدهور الاقتصادي، فبحث بالتالي عن بديل جديد في العام الحالي معاقباً المنظومة الحاكمة بإعطاء الثقة لشخصية مستقلة إلى جانب شخصية ثانية نجحت على المستوى الاجتماعي في توزيع المساعدات على الفقراء انطلاقاً من جمعية خيرية.
وكشفت عمليات استطلاع الرأي وسبر الآراء التي سبقت الانتخابات الرئاسية أن نتائج الانتخابات التشريعية لن تختلف عن الحصيلة المفاجئة للدور الرئاسي الأول والتي كانت بمثابة الصدمة لزعماء الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حد سواء، مع أنها كانت متوقعة بحسب استطلاعات الرأي، مع صعود قيس سعيّد للدور الثاني، وحصول مرشحين مستقلين على أصوات عدة، في وقت باءت الأحزاب التقليدية والعريقة بخسارة مدوّية رغم امتلاكها ماكينة انتخابية قوية وقاعدة واسعة من الأنصار.
بدورها، كشفت عضو منظمة "ملاحظون بلا حدود" المختصة في مراقبة الانتخابات، خلود بن سعيد في حديثٍ لـ"العربي الجديد" بأنه يمكن ملاحظة التطور الإيجابي على مستوى حضور المستقلين في الانتخابات التونسية، وأنه بالمقارنة بين الانتخابات التشريعية لسنة 2014 والانتخابات الحالية، يُلاحظ تراجع عدد القوائم الحزبية المرشحة من 812 إلى 686 قائمة لسنة 2019، في مقابل ارتفاع عدد القوائم الانتخابية المستقلة من 414 في الانتخابات السابقة إلى 707 قوائم في الانتخابات المنتظرة. وذكرت أن 10 أحزاب فقط قدمت قوائم انتخابية في كل الدوائر الانتخابية بالداخل (27 دائرة)، وأشارت إلى أن 175 حزباً قدموا مرشحاً في دائرة واحدة فقط في مقابل تقديم 25 حزباً ترشيحات في أكثر من دائرة انتخابية، ولم تتقدّم 10 أحزاب بأي ترشيح.
ونوّهت المتحدثة إلى أنه على الرغم من عدم إحراز القوائم المستقلة خلال انتخابات 2014 نتائج لافتة بشكل يمكنها من التأثير الواضح، مقارنة بالكتل الحزبية الكبرى، إلا أن صعود المستقلين في الانتخابات البلدية 2018 مثّل مفاجأة.
وحلّت القوائم المستقلة في الانتخابات البلدية في المركز الأول، من ناحية كتلة التصويت مقارنة بأحزاب الحكم ومتصدري المشهد السياسي، حزبي النهضة ونداء تونس حينها. وكشفت بن سعيد أنه يمكن اعتماد نتائج البلديات معياراً للانتخابات التشريعية، تحديداً في سياق التصويت على القوائم والتقارب في الحراك الانتخابي المحلي والبرامج الجهوية، عكس الانتخابات الرئاسية التي تعتمد نظام التصويت على الأفراد. ولفتت إلى أن تونس سجلت منافسة حامية بين 2074 قائمة موزعة بين 860 قائمة مستقلة و159 ائتلافية و1055 حزبية، فحصدت القوائم المستقلة 32.9 في المائة من الأصوات، أي 2376 مقعداً، متقدمة على حزب النهضة الذي احتل المركز الثاني بـ29.6 في المائة، حاصلاً على 2135 مقعداً، ثم ثالثاً حزب نداء تونس بنسبة تصويت بلغت 22.7 في المائة، أي 1595 مقعداً. واعتبرت الأحزاب نفسها فائزة على المستقلين، بسبب تشتتهم وعدم انسجامهم في نفس المحافظة بما لا يجعلها كتلة متجانسة على المستوى الوطني. ويخشى مراقبون من تحول البرلمان المقبل إلى ناد للمستقلين ومناهضي النظام ودعاة إسقاط المؤسسات والبناء على أنقاضها، في وقت لا يحتمل الشعب المزيد من الانتظار لتحقيق مطالبه في التنمية والعمل، وهي الشعارات نفسها التي رُفعت غداة الثورة (2011). وينتظر البرلمان المقبل امتحان تشكيل الحكومة الجديدة، التي يقترحها الحزب صاحب الأغلبية البرلمانية، فضلاً عن أن نظام البرلمان يستند إلى عمل الكتل، بما يجبر المستقلين على التواجد داخل كتل كبيرة، ليتمكنوا من انتخاب رئيس للبرلمان وتشكيل هياكله وتأليف حكومة جديدة، وهو ما يعدّ أمراً صعباً في ظلّ غياب الانسجام الفكري والتناسق السياسي بين المستقلين.