"جبل البابا" الفلسطيني... مشاهد ما قبل التهجير

29 نوفمبر 2017
يجمع سكان "جبل البابا" على المواجهة (العربي الجديد)
+ الخط -
الحياة هادئة نوعاً ما، وسط حالة من القلق والترقّب الشديد لما سيؤول إليه الوضع بعد تهديدات الاحتلال الإسرائيلي بتهجير وترحيل البدو الفلسطينيين الذين يعيشون في تجمّع "جبل البابا" الواقع على الجهة الجنوبية الشرقية لمدينة القدس المحتلة.

ظروف المعيشة في الشتاء يبدو عليها مظهر القساوة والصعوبة، فالبيوت من الشعر والحديد، محاطة بقطع من القماش والنايلون، لتحمي السكان بعض الشيء من الأمطار، في الوقت الذي تطلق فيه عيون من يقطنونها نداءات الاستغاثة للمجتمع الدولي والمسؤولين الفلسطينيين بضرورة مساندتهم وتعزيز صمودهم، ومواجهة مخططات الاحتلال الرامية لتهجيرهم وإبعادهم عن أراضيهم التي يعيشون فيها في جبال القدس منذ هجرتهم الأولى عام 1948.

جالت "العربي الجديد" هناك برفقة عدد من الصحافيين والأجانب ضمن جولة نظمها المكتب الوطني التنسيقي للمناطق المسماة (ج) التابع للحكومة الفلسطينية، ورصدنا مشاهد الحياة في هذا المكان في ظلّ تصاعد وتيرة التهديد الإسرائيلي الأكثر جدية بترحيل أهالي "جبل البابا" لتنفيذ مخططات مشروع القدس الكبرى.

واعتبر وزير هيئة شؤون الجدار والاستيطان وليد عسّاف الذي كان في الجولة، بدافع تعزيز صمود السكان البدو في التجمّع، أن الاحتلال "ينفّذ هذه الحملة الأخطر في جبل البابا لعزل الضفة الغربية المحتلة عن مدينة القدس، وتمهيداً لفصل شمال الضفة الغربية المحتلة عن جنوبها".

ويريد الاحتلال الإسرائيلي، وفق شرح عساف، أن يضم المزيد من المستوطنات في غلاف مدينة القدس المحتلة، إلى المدينة، لتصبح مع بلدية القدس الكبرى، وهو المخطط الذي يرمي الاحتلال إلى تنفيذه، ويشمل مستوطنات في محيط القدس وبيت لحم وأريحا، بهدف ترحيل التجمعات البدوية من هناك.


ورأى عسّاف أن "مثل هذه المشاريع من شأنها تدمير المشروع السياسي، وتهديد عملية السلام، وتدمير المفاوضات. الاحتلال يريد مشروع إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر، وهذا يقتل أي عملية سياسية مستقبلية"، مؤكداً على "ضرورة التصدي لهذه المخططات من أجل إنقاذ الحلّ السياسي، وفرصة الدولة الفلسطينية المستقلة. ويجب في نهاية المطاف إفشال مخططات التهجير القسري". ولفت إلى أنّ الوزارة جاهزة للتصدّي لعمليات الترحيل من خلال دعم صمود السكان وتقديم الاحتياجات اللازمة لهم، إضافة إلى الاعتصام في المكان وعدم مغادرته.

ويضم تجمع جبل البابا نحو 57 مسكناً، تتعرض جميعها لخطر الهدم وسكانها لخطر الترحيل.

وفي اللحظة التي كان يقوم بها الصحافيون بجولتهم، اقتحم ضباط ما يسمى "بتنظيم الإدارة المدنية" التابع لجيش الاحتلال برفقة عناصر شرطة التجمّع، وشرعوا بتصوير المساكن من جديد. ويقول السكان إن هذه الأمور تقلقهم وترعبهم بسبب المجهول الذي ينتظرهم.

وبدا القلق واضحاً على وجوه الأطفال لحظة مشاهدة مركبات الاحتلال وهي تقتحم تجمعهم، وقد غلب على المشهد طابع الترقّب، في حين اكتفى الضباط بتصوير بعض البيوت السكنية هناك وحظائر الأغنام قبل أن يغادروا.

عيون الثمانيني سلمان جهالين كانت تلاحق تحركات جنود الاحتلال. يقول لـ"العربي الجديد": "يبدو أنهم حقدوا علينا، يريدون زرع الخوف في قلوبنا". يجلس على صخرة صغيرة ويتابع حديثه بتساؤل: "وين نروح، رحيل لن نرحل، رح نمد ونواجه، إحنا إلنا عمر في هذا المكان، وين بدهم يرحلونا، مش رح نرحل".

وقضى جهالين شبابه في التجمّع، وهو يرفض تخيّل فكرة الرحيل عنه إلى المكان البديل الذي يحاول الاحتلال الإسرائيلي ترحيله إليه. ويجزم بأنه، ورغم كهولته، سيواجه حتى الرمق الأخير. ويضيف المسن وهو يشعل سيجارة "إن وقفت معنا السلطة، لن نرحل"، طالباً من الجميع أن يقفوا مع أهالي التجمّع، لإفشال مخططات الاحتلال الرامية إلى ترحيلهم والسيطرة على أراضيهم.

أمضى عرفات مزارعة، 35 عاماً في التجمّع الذي ولد فيه، وناشد عبر "العربي الجديد" الجميع بضرورة الوقوف إلى جانب أهالي المنطقة، وتعزيز صمودهم، ولا سيما أنّ الحياة قاسية في التجمّع، خصوصاً في فصل الشتاء، فالبرد قارس، والاحتلال يفرض على السكان حظراً في البناء والتوسّع وحتى الصيانة وإضافة ما يلزم لبيوتهم. لا شيء من مظاهر البنية التحتية موجود هناك.

ويقول: "حتى لو هدموا بيوتنا، سنعيد بناءها من جديد، لا مكان آخر لنا غير هذه الأرض، هنا ولدنا، وهنا ترعرعنا، ولن نبحث عن بديل. سنصمد قدر المستطاع، وفكرة الرحيل مرفوضة تماماً". ولعرفات أطفال، يخبرونه أنهم يشعرون بالخوف مع تكثيف قوات الاحتلال عمليات اقتحام التجمّع. باتت الصورة أكثر بشاعة في مخيلة الأطفال الذين يرسمون فيها مشاهد الجرافات الإسرائيلية وهي تهدم بيوتهم الآمنة وتشردهم في هذا الشتاء والطقس البارد.

وكلّف رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدالله أحد مستشاريه مخاطبة الأهالي بأن الحكومة الفلسطينية تقف إلى جانبهم، وتدعم صمودهم، معتبرة التجمّع خطاً أحمر، ومخططات الاحتلال هناك تقتل حلّ الدولتين، وتمنع قيام الدولة الفلسطينية. ودعت الحكومة من على "جبل البابا" إلى التراجع عن عمليات الهدم، ووقف الأنشطة الاستيطانية، والقمع ضدّ الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق (ج)، والتوقّف عن حماية المستوطنين، والالتزام بحدود عام 1967 كحلّ للدولتين. كما طالبت الحكومة الفلسطينية المجتمع الدولي بالضغط على سلطات الاحتلال لوقف عمليات الهدم، إضافة إلى مطالبته الاعتراف بالدولة الفلسطينية.


ويطالب الأهالي، بدورهم، الحكومة بمزيد من الدعم، لمواجهة جديّة الاحتلال في ترحيلهم، والذين يعتبرونه ماضياً في مشروع القدس الكبرى، اليوم أم غداً، وحتى إن بقي الأمر غامضاً، إلاّ أنه سيأتي في يوم من الأيام ويهدم التجمّع ويرحّل السكان.

هذا ما يقلق عدنان جهالين، وفق ما يقول لـ"العربي الجديد" وهو يرعى قطيع الماشية، حيث صوّر ضباط الاحتلال منزله الذي تعرّض للهدم في السابق. ما يريده عدنان هو العيش الآمن في منزله، وحماية ماشيته التي يصل عددها إلى 150 رأساً، والمهم أن تتوقف تهديدات الهدم، ولا سيما في الشتاء.

لن يرحل عدنان رغم أنّ خوفه على ماشيته بدا واضحاً، فغالبية أغنامه لديها صغارها، وأي اقتحام للاحتلال يهدّد حياتها، ويكبده خسائر، وربما يفقده مصدر رزقه الوحيد، كون غالبية سكّان "جبل البابا" يعتمدون في معيشتهم على الثروة الحيوانية.

تسعة من أبناء يوسف جهالين، أحد سكان التجمّع، في حالة خوف أيضاً من أن يصبحوا بلا مأوى إذا ما نفّذ الاحتلال تهديداته. ورغم تحمّلهم صعوبة الحياة في التجمّع، وضعف الكهرباء والماء، وبرد الشتاء، إلاّ أنهم يرفضون فكرة الرحيل، ويفكّرون كثيراً بالمواجهة والصمود والبقاء في أرضهم.

ويقول يوسف: "نريد الدعم الرسمي لنبقى، نريد أن يواجه الجميع معنا، نحن في المحصّلة لن نقدر على الوقوف في وجه الجرافات وحدنا"، مطالباً المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية والإنسانية بأن تتحمّل مسؤولياتها، خصوصاً بما يخالف به الاحتلال القانون الدولي، إذ يمارس تهجيراً عرقياً للتجمعات البدوية المحيطة بمدينة القدس المحتلة.

يجمع سكان "جبل البابا" على المواجهة، ورفض فكرة التهجير مرة أخرى، في الوقت الذي تتجه فيه أنظارهم نحو الأيدي التي ستمتدّ إليهم وتساندهم في مواجهة جرافات الاحتلال الإسرائيلي التي قد تقتحم منطقتهم في أي لحظة وتهدم حياتهم البسيطة، وذكريات الشباب والطفولة وتوقع عليهم نكبة جديدة على مرأى من العالم.

المساهمون