فشلت القمة التي جمعت الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، في موسكو أول من أمس الأربعاء، وعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات، في حلحلة الخلافات في وجهات نظر البلدين حول سورية، تحديداً في ما يتعلق بالمنطقة الآمنة. وعلى الرغم من الأجواء الإيجابية التي حرص بوتين وأردوغان على الترويج لها خلال المؤتمر الصحافي بينهما عبر التعهد بتنسيق تحركاتهما بشكل أوثق في سورية باعتبار أن "التعاون بين روسيا وتركيا هو محك للسلام والاستقرار في سورية"، إلا أن تركيز بوتين على اتفاق أضنة، الموقع بين النظام السوري وتركيا في عام 1998، باعتباره يمكن أن يساهم بتحقيق تركيا لأمنها على الحدود مع سورية، كان بمثابة إشارة كافية إلى الرفض الروسي للمنطقة الآمنة التركية واستخدام اتفاق أضنة كذريعة لإجهاض فكرة المنطقة الآمنة، أخذاً بعين الاعتبار ما يتضمنه الاتفاق. ودلّ كلام الرئيس التركي أمس على خلافات تركية روسية حول "المنطقة الآمنة"، مع تلميح مصادر تركية إلى أن موسكو تحاول استخدام اتفاق أضنة كمبرر للالتفاف على فكرة "المنطقة الآمنة"، خدمة لمصالح النظام السوري.
وبعدما كان أردوغان أكد في مؤتمر صحافي مع بوتين إثر لقائهما الأربعاء عدم وجود خلافات بين بلاده وروسيا بشأن "المنطقة الآمنة"، فيما كان بوتين ذكّر باتفاق أضنة وبأنه يمكن أن يزيل العديد من العراقيل المتعلقة بتحقيق تركيا أمنها على حدودها الجنوبية، عاد الرئيس التركي للرد أمس، مشدداً على ضرورة طرح اتفاق أضنة للتداول. وفي كلمة له أمس في أنقرة، أكد أردوغان أن تركيا ليست لديها مطامع احتلالية في سورية، وأنها الدولة الوحيدة التي تتواجد في سورية لغايات إنسانية بحتة. وذكر أن من أهم أهداف العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا داخل الأراضي السورية، تحقيق الأمن للسكان الذين يعيشون هناك إلى جانب ضمان أمن الحدود. وأكّد أن تركيا تبحث عن سبل ضمان الأمن على عمق 30 إلى 32 كيلومتراً في المنطقة القريبة من تركيا، لافتاً إلى أن هناك حسابات ومشاريع أخرى لدى أجندة بقية القوى المنتشرة في المنطقة.
من جهته، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أن بلاده لديها القدرة على إقامة "منطقة آمنة" في سورية بمفردها، لكنها لن تستبعد الولايات المتحدة أو روسيا أو أي دول أخرى تريد أن تتعاون في هذه المسألة. وأكد الوزير التركي امتلاك بلاده حق مكافحة التنظيمات الإرهابية داخل الأراضي السورية بموجب اتفاق أضنة، موضحاً في مقابلة تلفزيونية أمس، أن الاتفاق يلزم الجانب السوري بمكافحة التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمن تركيا وحدودها، وتسليم الإرهابيين إلى أنقرة. وأكد أن تركيا ليست لديها أجندة سرية في سورية، وأن مواقفها بشأن مصالحها وأمنها القومي واضحة وصريحة، داعياً إلى الإسراع في تطبيق بنود خارطة الطريق حول منبج. وحول مستقبل رئيس النظام السوري، قال جاووش أوغلو: "لا يمكن لشخص تسبب في مقتل نحو مليون سوري أن يوحّد السوريين تحت مظلته، ولا نستطيع أن ننسى كل من ماتوا في سورية ونقول لهذا الشخص واصل مسيرتك في إدارة البلاد".
ولفتت المصادر لـ"العربي الجديد"، إلى أن الرد القوي من أردوغان حول ضرورة إعادة النظر باتفاق أضنة، محاولة تركية للتأكيد على أن الاتفاق كانت له أسباب وسياقات مختلفة، وأن الوحدات الكردية مرتبطة بحزب "العمال الكردستاني"، وهو ما يؤكد أن الخلاف يتعلق بأبعاد المنطقة، خصوصاً مع وجود حالة ابتزاز من الجانب الأميركي للأتراك في موضوع "المنطقة الآمنة"، فالولايات المتحدة تفضّل أن تكون هذه المنطقة عازلة لمناطق سيطرة الوحدات الكردية، وتحكمها عناصر محلية من قوات البشمركة السورية المرتبطة بالمجلس الكردي، وقوات عربية من العشائر.
وعلى الرغم من الخلاف التركي الروسي حول هذه النقطة، فإن المصادر التركية رفضت اعتبار اجتماع أردوغان وبوتين الأربعاء فاشلاً، قائلة إنه سيطر عليه خلافٌ حول أبعاد "المنطقة الآمنة". وذكرت المصادر أن الولايات المتحدة وفي لقاءاتها مع المسؤولين الأتراك، حذرتهم من أن الدخول إلى الشمال السوري بشكل أحادي، من دون التنسيق مع روسيا وأميركا، سيضع أنقرة خلال وقت قصير في مواجهة مع القوات العسكرية الروسية، ومن هنا كان على تركيا إقناع روسيا بوجهة نظرها تجاه تلك المنطقة.
مقابل ذلك، اعتبرت مصادر أخرى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن لقاء بوتين-أردوغان شهد فشلاً، لأن تركيا كانت تعوّل على تفهم روسيا لمخاوفها، وهو ما لم يتم. ولفتت المصادر إلى أن أنقرة ستعيد الآن النظر في الطرح الروسي المتعنّت حول "المنطقة الآمنة"، ومعرفة حقيقة التفاهم الأميركي الروسي حول المنطقة ومستقبلها، في حين وصفت مصادر أخرى الأجواء التي سيطرت على الوفد التركي بعد اللقاء بأنها غير متفائلة وغير متشائمة، وهو ما يعني أن النقاش حول الموضوع سيكون طويلاً وشاقاً. فيما أكدت مصادر أخرى أن الولايات المتحدة وروسيا حريصتان على العمل مع تركيا، وبالتالي فإن الحصول على موافقتها أمر ضروري لمستقبل المنطقة، خصوصاً أن أنقرة باتت لاعباً أساسياً في العملية السياسية، وتراهن على هذه الورقة، ومن هنا يمكن الحديث عن حلول وسط ربما حول "المنطقة الآمنة" وعمقها، وبالتالي من الممكن أن يكون عمق هذه المنطقة في المناطق الريفية أكبر من مساحات جغرافية معينة، مثل محيط عين العرب والقامشلي.
ولخصت المصادر حقيقة ما حصل، بأن هناك تفهماً روسياً للمخاوف التركية، وهي تعمل عليها، ولكنها تعترض على عمق هذه المنطقة التي إذا ما قيست بطولها فإنها تشكل مسافة هامة جداً، مما يقوي تركيا أكثر على الطاولة، ولهذا تسعى موسكو لتقليل هذه المسافة قدر الإمكان، فيما ستعمل أنقرة عبر الحوار من أجل إقناع الجانب الروسي.
وتعليقاً على هذا الموضوع، اعتبر المحلل العسكري العميد أحمد رحال، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هدف بوتين من التذكير والتأكيد على اتفاق أضنة هو إعادة تدوير النظام السوري وتذكير أنقرة بأنه ما زال موجوداً. وأضاف أن موسكو كانت دائماً تسعى لإعادة الشرعية لنظام بشار الأسد التي فقدها بعد أن قتل المدنيين، واستخدم بحقهم كل أنواع الأسلحة حتى الكيميائية منها.
من جهته، تساءل الباحث في الشؤون التركية، علي باكير، عما إذا كانت إثارة موضوع اتفاق أضنة تمت بمبادرة من روسيا أو بطلب من نظام الأسد نفسه. ورأى باكير في حديث مع "العربي الجديد"، أن إعادة تطبيق هذا الاتفاق اليوم، تفترض إعادة طرحه من قبل النظام السوري وليس تركيا، فـ"أنقرة غير مهتمة بالتواصل المباشر مع نظام الأسد كما أكدت علناً أكثر من مرّة، وأي التزامات متعلقة بهذا النظام غالباً ما يناقشها الجانب التركي مع روسيا". وأضاف أن العودة إلى هذا الاتفاق اليوم "تتطلب أن يلتزم نظام الأسد بقتال مليشيات العمال الكردستاني، وهو أمر مستحيل في ظل وجود القوات الأميركية"، فضلاً عن شكوك بقدرة النظام على القيام بهذه الخطوة حتى بعد رحيل القوات الأميركية، خصوصاً مع انتفاء المصلحة لدى النظام في هذه المرحلة لفتح جبهة جديدة مع تلك المليشيات تستنزف طاقاته.
ورأى باكير أن تركيا لن توكل مهمة حماية حدودها وأمنها للنظام السوري، خصوصاً أنه سبق للنظام استخدام هذه المليشيات قبل الثورة وبعدها ضد تركيا، ولا شيء يمنعه مستقبلاً من استخدامها مجدداً حتى لو قرر محاربتها في وقت من الأوقات، مضيفاً "كما أنه من الصعب التعويل على ضمانات غير موثوق بها من قبل لاعبين آخرين إقليميين أو دوليين إلا إذا تمّ هذا الأمر ضمن صفقة أكبر تشمل أخذ كل المطالب التركية في الملف السوري بعين الاعتبار".
وأوضح باكير أن اتفاق أضنة يعالج الجوانب الأمنية فقط، بينما لتركيا أولويات أخرى تتعلق بعودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم في شمالي سورية وبقية المناطق السورية، و"مثل هذا الأمر لا يمكن أن يتم من دون حالة استقرار وأمان، وهو الأمر الذي لن يشعر به العائدون في حال كان نظام الأسد سيسيطر مجدداً على هذه المناطق، فضلاً عن بحث تركيا عن حل دائم للأزمة السورية برمتها".
وأضاف عبدلله أن ما قد يساعد على التوافق بين تركيا وروسيا أن هناك مصلحة للنظام السوري في حصول قدر من التوافق مع أنقرة بهذا الشأن لأن الوجود المسلح الكردي في تلك المناطق هو مشكلة كبيرة بالنسبة له أيضاً، وربما أكبر مما هو مشكلة لتركيا، خصوصاً في سعيه لإعادة بسط سيطرته على كامل الأراضي السورية، وتحديداً المناطق الغنية بالنفط والمياه والزراعة. وأضاف أن النظام يدرك في قرارة نفسه أنه لا توجد مطامع طويلة الأمد لتركيا في سورية، وأنها ستنسحب في النهاية حالما يتم التوصل إلى حل سياسي في البلاد، وإن كان يدرك أيضاً طبيعة الموقف التركي المناهض لحكم الأسد. لكن في السياسة، يضيف عبدلله "لا يوجد أعداء دائمون، خصوصاً مع وجود حليفي النظام، روسيا وإيران، في حلقة التنسيق مع تركيا بشأن الحل السياسي في البلاد، ولا بد في النهاية من العثور على صيغة للتعايش بين الطرفين".
ورأى عبدلله أن "التفاهم مع الولايات المتحدة بخصوص هذه المسألة ربما يكون هو الأصعب بالنسبة لتركيا، لأنه من غير المعلوم ماذا تريد واشنطن في النهاية، وهل ستدعم مطالب سياسية عالية للأكراد في سورية، أم تكتفي بالحصول على تعهدات من أنقرة بعدم التعرض للمسلحين الأكراد، وفق قواعد فض اشتباك يتم التوافق عليها". وأضاف "إذا حصل توافق، تركي روسي، أميركي، في نهاية المطاف، وهذا أمر غير مستبعد، فقد تحل قضية السلاح الكردي بأن يتم تسليمه للنظام، وفق ترتيبات يتوافق عليها الأكراد والنظام برعاية روسية، وهذا سيناريو بات مطروحاً في الآونة الأخيرة، ولم تظهر تركيا ممانعة جدية لحدوثه".