الأزمة الأميركية في أخطر مراحلها: تناحر سياسي بلا كوابح

19 يناير 2019
تبدو المواجهة بين ترامب وبيلوسي مفتوحة على كل الاحتمالات(Getty)
+ الخط -
تتوالى فصول التراجع في المشهد السياسي الأميركي في الأيام الأخيرة حتى باتت اللعبة السياسية كـ"تصرفات تلاميذ المدرسة"، بحسب تعبير رئيس "مجلس العلاقات الخارجية" ريتشارد هاس. يأتي ذلك مع تفاقم أزمة الإغلاق الحكومي الذي ضرب الرقم القياسي في مدته ويقترب من دخول شهره الثاني، لتبدو هذه الأزمة وكأنها تحاكي بالشكل، وإن بصورة مصغّرة، الاستعصاء الحكومي العراقي واللبناني. وتأثر نحو 800 ألف موظف فيدرالي والعديد من المتعاقدين بالإغلاق الحكومي الجزئي الذي تسبّب به رفض الرئيس دونالد ترامب توقيع الميزانية لعدد من الإدارات، في رد على رفض الديمقراطيين الذين يسيطرون على مجلس النواب خطته لإنشاء جدار حدودي مع المكسيك.

آخر مشاهد المناكفة بين ترامب والديمقراطيين، تجلّت في إبلاغ رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي الرئيس بأن عليه تدبّر أمره والعثور على طريقة أخرى لإلقاء الخطاب الرئاسي السنوي (حال الاتحاد) المقرر في 29 الحالي، لأن قاعة المجلس التي تستضيف هذه المناسبة تقليدياً والتي يعود لبيلوسي القرار بشأن استعمالها، لن تكون مفتوحة أمامه في ظل الإغلاق الحكومي. جاء رد ترامب سريعاً، بكتاب أبلغها فيه أنه لن يسمح لها باستخدام طائرة رسمية كما جرت العادة في رحلات أعضاء الكونغرس، في زيارتها إلى إيطاليا ومصر وأفغانستان، ليفتح ذلك المجال أمام دوامة من الردود لا أحد يعرف كيف ستنتهي.

وكانت بيلوسي قد تحجّجت بأن الإغلاق الحكومي أدى إلى تقليص حجم الجهاز الأمني المنوط به حماية مبنى الكونغرس الذي يجتمع فيه كافة أركان الدولة للاستماع إلى خطاب الرئيس، وبالتالي فإنها لا تنوي المجازفة كما قالت، بحماية منقوصة. واقترحت على ترامب "تأجيل خطابه لغاية إنهاء الإغلاق، أو تلاوته من البيت الأبيض، أو ربما إرساله خطياً إلى مجلسي النواب والشيوخ". وأملت بيلوسي من الأمن حرمان الرئيس من توظيف هذه المناسبة التقليدية السنوية المهمة المعمول بها منذ عام 1913، للدفاع عن الإغلاق الذي تورط فيه والذي بدأ يتكبّد خسائره. كذلك أرادت إبلاغ ترامب ما لم يألفه في أول سنتين من ولايته، بأن الكونغرس الجديد لن يتردد بعد اليوم في التصدي له ووقفه عند حدّه.

في المقابل، جاءت خطوة ترامب الذي استخدم صلاحياته لحرمان بيلوسي من امتيازات السفر الرسمي الخاص المحاط بالحراسة المطلوبة، خصوصاً عند زيارات كبار المسؤولين إلى مناطق تدور فيها عمليات عسكرية مثل أفغانستان. وزيارة بيلوسي، التي كانت ستجري مطلع الأسبوع، لم تكن معروفة قبل رسالة ترامب. وعادة لا يتحدث النواب علناً عن رحلاتهم الخارجية قبل حدوثها لأسباب أمنية، خصوصاً عندما تكون الرحلات إلى مناطق حرب. وقال ترامب في الرسالة "بسبب الإغلاق، يؤسفني إبلاغك بأن رحلتك إلى بروكسل ومصر وأفغانستان تأجلت". وأبلغ الرئيس بيلوسي بأنها من الممكن أن تقوم بالجولة باستخدام رحلات تجارية. وعادة ما تستخدم رئيسة مجلس النواب طائرة عسكرية للرحلات الخارجية، ويبدو أن هذا هو الأساس الذي استند إليه ترامب في تحركه بصفته القائد الأعلى للقوات الأميركية. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز: "علّق قدرتها على استخدام الطائرات العسكرية والتي ينبغي الموافقة عليها" من وزارة الدفاع.

في المقابل، أوضح درو هاميل، المتحدث باسم بيلوسي، أنها كانت تعتزم زيارة القوات الأميركية في أفغانستان والتوقف في بروكسل لحضور اجتماعات، للتأكيد على "الالتزام الراسخ" من الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي. وقال هاميل على "تويتر": "كان هدف الجولة التعبير عن التقدير والشكر لقواتنا، رجالاً ونساء، لخدماتهم وتفانيهم والحصول على إفادات شديدة الأهمية بشأن الأمن القومي والمخابرات ممن هم على جبهات القتال".


قرار ترامب لاقى انتقادات حتى من الجمهوريين. وقال السيناتور ليندسي غراهام على "تويتر" إنه "رد فعل غير ناضج لا يستوجب الرد عليه بالمثل". كذلك انتقد اقتراح بيلوسي بشأن تأجيل خطاب حالة الاتحاد ووصفه بأنه "مسيّس على نحو سافر"، لكنه قال إن "منع الرئيس ترامب رئيسة مجلس النواب من السفر على متن طائرة عسكرية لزيارة قواتنا في أفغانستان وحلفائنا في مصر وحلف شمال الأطلسي غير ملائم أيضاً".

ودلت خطوتا بيلوسي وترامب على كيدية والثأر، ما أثار مخاوف جهات كثيرة لناحية مدى التآكل الذي سوف يتسبّب به هذا التناحر للعملية السياسية، خصوصاً أنه ليس في الساحة أي بدائل أو حلول أو كوابح لهذا الاشتباك السياسي الذي بلغ ذروته في المواجهة بين صاحبي الموقع رقم واحد ورقم ثلاثة في هرم السلطة، نتيجة لتراكمات السنتين الماضيتين والمرشحة للمزيد من التفاقم.
ولفت ما كشفته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، من أن هناك بعض المؤشرات على أن الديمقراطيين في مجلس النواب، الذين يشعرون بقلق متزايد من عدم مواجهتهم مطالب ترامب بإقامة الجدار على الحدود بأفكار خاصة بهم، كانوا يفكرون بعرض خطتهم الخاصة لتأمين الحدود بشكل أكثر فعالية. وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الخطوة ستكون بمثابة تحوّل في استراتيجية الديمقراطيين، الذين رفضوا بثبات الدخول في مناظرة مع ترامب حول أمن الحدود في ظل الإغلاق الحكومي. وذكرت "نيويورك تايمز" أن النائب الديمقراطي عن ولاية أوريغون، بيتر ديفازيو، أبلغ مجموعة من رؤساء اللجان في اجتماع مغلق الأربعاء الماضي، أن الوقت قد حان لطرح الحزب الديمقراطي أفكاره الأمنية الحدودية الخاصة. وقال في مقابلة صحافية: "إن ما يقترحه الرئيس لن يوفر أمناً حقيقياً على الحدود، إنه جدار غبي ومجرد رمز، ولن يكون فعالاً". ولم يتضح ما إذا كان قرار ترامب حول إلغاء رحلة بيلوسي سيدفع الديمقراطيين إلى التشدد أكثر وإلغاء أي تفاوض مع ترامب حول الحدود.

لكن التخوّف الأهم والأخطر أن يلجأ البيت الأبيض المحرج من كافة الزوايا، إلى فتح جبهات أخرى بهدف التمويه وصرف الأنظار والأضواء عن متاعبه المتزايدة. فالإغلاق الحكومي الذي يدخل شهره الثاني قريباً (بدأ في 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي)، بدأ يغلق، ولو ببطء، أبواب الكونغرس والساحة الانتخابية بوجه ترامب، ولا مخرج أمامه للتراجع إلا بخسائر لا يحتملها. وموضوع الجدار الحدودي مع المكسيك تحوّل إلى جدار سياسي كبير في طريقه. في ذات الوقت، بدأ المحامي الأبرز في فريق الرئيس القانوني، رودي جولياني، يمهّد الأجواء لصدور اتهامات بالتواطؤ في تقرير المحقق الخاص حول التدخّل الروسي، روبرت مولر، بين "أفراد في حملة ترامب الانتخابية" لعام 2016 وبين الروس. تراجع بدا كمحاولة لفصل الرئيس عن مستشاريه الانتخابيين، لتبقى التهمة محصورة بهم إذا أمكن. كل ذلك، وفي ضوء السوابق، يُرجّح صدور مفاجآت رئاسية خاصة خارجية، ربما كان أول مؤشراتها قرار الرئيس الأميركي بإلغاء مشاركة وفد أميركي في منتدى دافوس الاقتصادي. وقال بيان صادر عن المتحدثة باسم البيت الأبيض: "بالنظر إلى وجود 800 ألف موظف أميركي رائعين لا يستلمون رواتبهم، ولضمان أن باستطاعة فريقه المساعدة كما يجب، ألغى الرئيس ترامب رحلة وفده إلى منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس في سويسرا". وكان وزير الخزانة ستيف منوتشين من بين الخمسة الكبار في الوفد، الذي يضم أيضاً وزير الخارجية مايك بومبيو، ووزير التجارة ويلبر روس، والممثل التجاري روبرت لايتهايزر، ومساعد الرئيس كريس ليدل.
هذه التطورات تجعل اللحظة السياسية الأميركية الراهنة "هزيلة" بخطابها، ومبهمة بتوجهاتها، وليس في الساحة غير الحيرة وانتظار الخروج من النفق، الذي لا يبدو قريباً.

المساهمون