لغز أموال مبارك: لماذا تعجز مصر أو المخلوع عن استردادها؟

19 ديسمبر 2018
مبارك ينفي امتلاكه أموالاً خارج مصر (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

أصدرت المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ حكمين متتاليين برفض الإفراج عن الأموال المجمدة للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وأفراد أسرته، في البنوك الأوروبية، فيما اعتبر ضربة لمساعيه القانونية لاسترداد الأموال لمصلحته، وفرصة جديدة للدولة المصرية لاسترداد تلك الأموال لمصلحتها. لكن الواقع العملي يبتعد كثيراً عن ترجمة هذه الحقيقة النظرية. فرغم أن كل حكم أوروبي باستمرار تجميد أموال مبارك هو من الناحية النظرية لصالح الدولة المصرية، ويفسح المجال أمامها لاتخاذ إجراءات جديدة لاسترداد هذه الأموال، التي لا يعرف أحد قيمتها على وجه التحديد، إلا أن العقبات القانونية والسياسية، القائمة منذ العام 2011، تمنع استفادة مصر من تلك الأموال، التي لا تقتصر فقط على الأموال السائلة، بل تشمل ثروات عقارية مجمدة في بعض الدول الأوروبية، وحصصاً في شركات في أوروبا والدول المعروفة بكونها ملاذات ضريبية.

فالدول الأوروبية التي تجمد فيها هذه الأموال لا تستطيع، وفق قوانينها، منح الأموال المجمدة للدولة المصرية، إلا إذا صدر حكم من جهة قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية يثبت أن تلك الأموال تحديداً كانت حصيلة أنشطة غير قانونية وممارسات فساد غير مشروعة. فالتجميد كقرار منفصل، تم اتخاذه بناء على التحقيقات الأولية التي أجرتها النيابة العامة المصرية عن ثروة مبارك في العام 2011 مدعومة بمعلومات من شهود وأوراق حصلت عليها الشرطة من أفراد أسرة مبارك، فضلاً عن التحقيق مع نجليه علاء وجمال، اللذين كشفا تفاصيل ممتلكاتهم. لكن مبارك نفسه ينفي حتى اللحظة امتلاكه أي أموال خارج مصر، ويعتبر هذا الأمر من الألغاز، لأن البيانات المصرفية في سويسرا تنفي بالفعل أن تكون له أموال باسمه، لكن هناك معلومات مؤكدة أنه منح أمواله في حياته لنجليه، وبالتالي فثمة ممارسات قد تدل على تلاعب لإخفاء كسب غير مشروع، لكن لا تتوفر للسلطات المصرية أو السويسرية أدلة كافية لإثبات ذلك.

لكن يبقى السؤال: ما الذي يمنع الحكومة المصرية من استرداد تلك الأموال طوال 8 سنوات؟ وقد توجهت "العربي الجديد" لثلاثة مصادر قضائية عملت على هذا الملف في عهود سياسية مختلفة، إذ إن الفترة بين ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 وحتى الآن شهدت تشكيل أكثر من 6 لجان عليا لاسترداد الأموال، أحدثها برئاسة النائب العام شخصياً، لكن أقربها للإنجاز كانت التي رأسها مساعد وزير العدل للكسب غير المشروع، عاصم الجوهري، عقب الثورة مباشرة، وهي التي نجحت في استصدار قرارات التجميد. وبحسب المصادر الثلاثة، فإن هناك مشكلتين أساسيتين تمنعان استعادة الأموال المهربة المجمدة، تحديداً من مبارك وأسرته بغض النظر عن الحالات الأخرى. المشكلة الأولى، أن تقارير رصد الثروات الخاصة بمبارك ونجليه صدرت من جهة لا تعتبرها أوروبا مستقلة أو محايدة، وهي لجان مشكلة من إدارة الخبراء بوزارة العدل، وهؤلاء الخبراء بالفعل ليسوا مستقلين، فهم جزء من السلطة التنفيذية، ورئيسهم الأعلى هو وزير العدل، ورئيسهم المباشر هو أحد مساعدي الوزير، وبالتالي فإن وضعهم القانوني يشكك في حتمية النتائج التي توصلت لجان الفحص إليها. وهنا يتضح مثال للفجوات القانونية بين النظام القضائي المصري والنظم الأوروبية المتعاملة حول ملف الأموال، فلا يوجد أي قانون مصري يسمح لأي جهة مستقلة بإجراء تحقيقات فحص على أموال وثروات أي مواطن، وحتى القضاء نفسه لا يستطيع إجراء هذا الفحص إلا من خلال الخبراء، وبالتالي ستبقى هذه العقدة قائمة لحين إجراء تعديل على صفة الخبراء ووضعهم الهيكلي أولاً. وقد حاول الخبراء استغلال هذه الثغرة الواضحة للمطالبة باستقلالهم، لكن الدولة تتمسك بإبقائهم تحت سيطرتها لأسباب أخرى، تعزوها المصادر لضرورة السيطرة عليهم تحت إدارة الوزارة للتوجيه وتلافي صدور تقارير غير مرغوب فيها من جهة، والتحكم في علاقتهم بالمتقاضين وإخضاعهم لقواعد التأديب الخاصة بموظفي الدولة من جهة أخرى.




وتوضح المصادر أن البيانات الوحيدة المتوفرة عن ثروة مبارك هي التي جمعها خبراء وزراء العدل المحاسبيين عن طريق فحص بيانات ومستندات تابعة لمبارك وقرينته سوزان ونجليه علاء وجمال، والأموال التي آلت إليهم بالميراث والبيع والشراء والتنازل بعد تولي مبارك الرئاسة. ومن ذلك الفحص تبين وجود فوارق "هائلة"، بدأ ضخها لحساباتهم الشخصية في البنوك المصرية، أولاً منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وليس من وقت عمل جمال مبارك في "بنك أوف أميركا" كما يدعي الأخير. وتبين أن معظم المداخيل كان مصدرها في البداية مجهولاً تماماً، ما تعتبره المصادر مؤشراً على عمل مبارك في سمسرة وتجارة الأسلحة، وهي الرواية التي تواترت في العديد من النصوص التي كتبت عن مبارك في الصحافة الأجنبية حتى قبل خلعه، ولمّح إليها الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه عن مبارك بعد خلعه. وأظهرت البيانات قفزة أخرى في أرصدة الأسرة في منتصف التسعينيات من خلال دخول علاء مبارك برأسمال حصل عليه من والده شريكاً في عشرات المؤسسات الاستثمارية المصرية في مجالات تجارية وصناعية شتى. أما القفزة الأكبر فكانت مع دخول النجلين في شراكات مع مستثمرين أجانب في شركات مستقرة بالملاذات الضريبية، ثم شراء هذه الشركات لحصص في شركات قابضة مصرية، وأحياناً عكس ذلك، وتربحهما من الاتجار في أسهم الشركات والبنوك المطروحة في البورصة المصرية.

هذا التفصيل يؤدي بالملف إلى المشكلة الثانية الأساسية، التي تمنع استرداد الأموال. فالقواعد الأوروبية تمنع تسليم الأموال المجمدة للدولة المطالبة بالتجميد إلا بعد إثبات صحة اتهاماتها بواسطة حكم قضائي نهائي وبات غير قابل للطعن، يثبت أن الأموال المجمدة، ولا شيء غيرها، قد تم تحصيلها بالفساد أو التدليس أو السرقة، وهو أمر لم تقترب منه مصر حتى الآن. فقد صدر ضد مبارك ونجليه في 8 سنوات كاملة حكم قضائي وحيد بات غير قابل للطعن، في القضية الخاصة بفساد القصور الرئاسية، وحكم على كل منهم بالسجن والغرامة، وقضى الثلاثة العقوبة، وما زالت الغرامة قيد النزاع القضائي بينهم وبين الدولة، إذ تحاول الأسرة التملص من دفع الغرامة المقدرة بنحو 147 مليون جنيه مصري بدعوى رغبتهم في التصالح، رغم رفض محكمة النقض هذه المحاولات في سبتمبر/ أيلول الماضي. وفي المقابل حجزت الدولة على نسبة كبيرة من أسهم علاء وجمال في شركات مختلفة داخل مصر لحين سداد هذه الغرامة. لكن الحقيقة أن هذه القضية، وحتى قضية التلاعب بأسهم البورصة المتهم فيها علاء وجمال، ليست لها أي علاقة بالأموال المجمدة في أوروبا. فالقضية الوحيدة الخاصة بتلك الأموال هي قضية الكسب غير المشروع، التي ما زال التحقيق فيها مستمراً بمعرفة جهاز الكسب غير المشروع بوزارة العدل، ولم يكتب سطر واحد في قرار الإحالة للقضاء الخاص بها، بحسب أحد المصادر القضائية الثلاثة.

ويعود سبب تجميد التحقيقات في هذه القضية إلى الوضع السياسي في المقام الأول. وتقول المصادر إن النظام الحاكم حالياً يؤمن بأنه سيكون من الصعب إثبات جدية اتهامات الكسب غير المشروع على جميع ثروات مبارك ونجليه، فالبيانات المجموعة من خبراء وزارة العدل لا تكشف بالتفصيل طبيعة الأنشطة المخالفة للقانون التي مارسها الثلاثة، وبالتالي سيسهل على دفاعهم التملص من الاتهامات أمام محكمة النقض تحديداً. وبالتالي، فإن تحريك القضية في وضعها الحالي يعتبر مخاطرة على أكثر من صعيد. فمن ناحية يمكن أن تنتهي القضية دون إدانة مبارك ونجليه، ويصبح من حقهم استرداد الأموال المجمدة، ومن ناحية أخرى يمكن لهم استغلال التعديلات التشريعية التي أدخلها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، منذ عامين على قانون الكسب غير المشروع، والتي تتيح التصالح في الجرائم الخاصة به مقابل رد المبالغ محل الكسب غير المشروع فقط، والتي كانت تهدف آنذاك لزيادة عوائد الدولة من أموال كبار رجال نظام مبارك، واتُبعت بالفعل هذه الإجراءات في العديد من قضايا الفساد. ومن ناحية ثالثة، وهي الأهم بالنسبة للنظام، أن السيسي سيفقد بتحريك القضية "فزاعة" أو "سلاح تخويف" ضد علاء وجمال. فطالما استمرت هذه القضية قائمة دون تحريك سيظل نجلا الرئيس المخلوع تحت الضغط ويخشيان إبداء أي تحدٍ علني للسيسي خوفاً من المجهول، وبالتالي فإن بقاء القضية في الأدراج يلبي الأهداف السياسية للنظام.

وتوضح المصادر أنه طالما بقيت هذه القضية تحديداً دون تحريك فإن أموال مبارك ربما لا تعود لأسرته، ولا تعود أيضاً لمصر، وستظل مجمدة لأجل غير مسمى، إذ لا توجد أي صلة قانونية بين تلك الأموال والحكم الذي صدر ضد مبارك ونجليه في قضية القصور الرئاسية، أو الحكم المتوقع صدوره في قضية التلاعب بالبورصة. بل إن مرور 10 سنوات على فتح القضية في العام 2021 قد يؤدي إلى تعقيدات إجرائية وقانونية في مصر وأوروبا، قد تنتهي، بحسب المصادر، إلى سقوط فاعلية الاتهامات المصرية وإتاحة الإفراج عن الأموال لعدم كفاية الأدلة وعدم تحريك القضايا الخاصة بما تم تجميده من أموال. وكان الاتحاد الأوروبي قد قرر في مارس/ آذار 2011 تجميد أرصدة مبارك و20 من المقربين منه، بناءً على إجراءات قضائية ضدهم في مصر بتهمة الاستيلاء على أموال عامة. وصدر الثلاثاء الماضي، قرار عن محكمة الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ، قالت فيه إنها ترفض تظلم مبارك وتؤكد قرارات مجلس الاتحاد في 2017 و2018 بتمديد تجميد الأرصدة.