وفاقم حالة الارتباك هاته موقف حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بعد البيان الذي أصدره المتحدث الرسمي باسم الحكومة، وزير الإعلام فيصل محمد صالح، الذي أكد فيه عدم علم مجلس الوزراء نفسه بنية البرهان السفر إلى أوغندا للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي والدخول معه في خطوات تطبيعية، وهو الحديث الذي أكدته كذلك وزيرة الخارجية، أسماء محمد عبد الله، التي نفت علمها، وهي المسؤولة الأولى عن تنفيذ السياسة الخارجية، باللقاء.
واستعاد الكثير من السودانيين، في تعليقهم على الحدث، المواقف الراسخة لبلادهم ضد أية محاولات للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، واستذكروا أهم تلك المواقف وأقواها، حينما جمعت العاصمة السودانية الخرطوم، في العام 1967، الزعماء العرب، عقب خسارة العرب حرب 67، في أشهر قمم الدول العربية والتي خرجت بلاءات ثلاث "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل"، حتى أن الخرطوم سميت فيما بعد بعاصمة اللاءات الثلاث.
حراك شعبي
وبدأ حراك شعبي عاجل لمناهضة خطوات ما بعد لقاء البرهان ونتنياهو، حيث أعدت مجموعة، سمت نفسها "سودانيون ضد التطبيع"، مذكرة تنوي تسليمها لهياكل السلطة الانتقالية. ووصفت المذكرة اللقاء بـ"الفاجعة التي جاءت في سياق غير مألوف لأهل السودان وغير مفهوم ويتصادم مع وجدانهم ومواقفهم المتقدمة في نصرة القضية الفلسطينية من مبدأ الوقوف ضد المستعمر".
وأشارت المذكرة إلى أن "الفاجعة تزداد حين يكون من يجري هذا اللقاء يلبس شرف القوات المسلحة، المستأمن الأول والمفوض من قبل الشعب لحماية السيادة الوطنية، وفي أولها الموقف من القضايا المصيرية".
وأضافت المجموعة أن "هذا الأمر بتلك الصورة له آثار خطيرة على السودان في داخله، ولن يمر، وقد مثل ضربة للشعب كل الشعب، وجعل السودان متسولا يطلب قوته على حساب دماء وحقوق الآخرين من الشعوب التي تقاتل في سبيل الحرية، وهو ضربة أخرى للثورة السودانية، وشعاراتها في الحرية والسلام والعدالة، التي تطلب رفض كل أشكال التقارب مع من يغتصب الأرض في فلسطين ويقتل المدافعين عن حقوقهم".
وأوضحت المجموعة أنها في معركة "ضد سرقة الثورة وأهدافها وطمس معالم القضايا العادلة والأصيلة في أمتنا، ودفاعا عن عزة أهل السودان من الارتهان لإسرائيل، وامتهان ظهر الشعب ليكون مطية لصفقة القرن التي تسلب الشعب الفلسطيني أرضه وحقه"، مشددة على "ضرورة التراجع عن الخطوة واتخاذ قرار فوري بوقف كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإصدار بيان واضح وبيّن للشعب وللعالم بأن الشعب السوداني لن يبيع مواقفه، مع محاسبة كل من رتب لهذه الزيارة وقام بها".
وقفة احتجاجية: البرهان إرحل
ونظم عشرات الأشخاص وقفة احتجاجية بالقرب من مقر مجلس الوزراء، رددوا خلالها شعارات مناوئة للتطبيع مع إسرائيل، مطالبين الحكومة بالاستقالة بعد حديثها عن عدم علمها باللقاء، كما ردد المحتجون شعارات تطالب برحيل البرهان.
وفي سياق تداعيات اللقاء، أثيرت مخاوف بين الثوار من مدى سيطرة المكون العسكري على مفاصل اتخاذ القرار في الفترة المقبلة، على حساب المكون المدني داخل مجلس السيادة، وانتزاعها حتى من مجلس الوزراء. أصحاب هذه المخاوف يرون أن الوثيقة الدستورية لا تخول رئيس مجلس السيادة ممارسة دور تنفيذي في السياسة الخارجية، معتبرين خطوته تغولاً على صلاحيات مجلس الوزراء.
واستغرب الناشط في صفوف الثوار، عزمي خالد، بشدة أن يكون لقاء البرهان نتنياهو بعيداً عن حكومة حمدوك، مستنكراً في تصريح لـ"العربي الجديد" التصريحات المنسوبة لوزيري الخارجية والإعلام بعدم علمهما باللقاء، مبيناً أن الكل يعلم أن مجلس السيادة هو مجلس تشريفي، فكيف له أن يقوم بمثل هكذا خطوة تعتبر تاريخية، مبدياً حذره الشديد من هيمنة عسكرية قادمة في المرحلة المقبلة.
من جانب آخر، ترى مجموعات أخرى في اللقاء المثير للجدل، محاولة من الحكومة الانتقالية لإلهاء الشارع عن الأزمات المعيشية الطاحنة التي يمر بها المواطنون، وعجزت الحكومة عن إيجاد حلول ناجعة لها، وتستبعد كل المجموعات أن يكون للتقارب مع إسرائيل أية نتائج عملية يمكن أن تسهم بالحد الأدنى في تخفيف الضائقة المعيشية.
على صعيد الأحزاب السياسية وتحالف الحرية والتغيير، ينتظر الجميع نتائج الاجتماع الطارئ الذي عقده مجلس الوزراء اليوم، وهو الاجتماع الذي لم يسمح فيه بدخول وسائل الإعلام لتغطيته، باستثناء وسائل إعلام حكومية، وحسب المصادر فإن اجتماعا آخر يجري الآن يضم المكون العسكري داخل مجلس السيادة، على أن يعقبه اجتماع مشترك بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء.
المؤتمر الشعبي: لقاء صادم
حزب "المؤتمر الشعبي" المعارض، كان سباقاً لإصداره بياناً قال فيه إن اللقاء جاء صادماً للموقف السوداني الشعبي الذي ظل مساندا ومعاضدا للقضية الفلسطينية في وجه الاستيطان الإسرائيلي المحتل.
وجاء في بيانه أن "اللقاء ليس فقط طعنة لقضية فلسطين، وإنما تلطيخ لسمعة السودان العزيرة ومواقفه المشرفة دفاعا عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني"، مضيفا "بدلا من دعوة المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته وتفكيك كافة المستوطنات غير القانونية على الأراضي الفلسطينية، وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلّة على كامل أراضيه وعاصمتها القدس، إذا باللقاء ينعقد مواصلة لخيوط التآمر ليس فقط على فلسطين وإنما على أمتنا العربية والإسلامية بأسرها".
وأكد الحزب رفضه التام والقاطع لتلك "الخطوة الذليلة والمناقضة تماما لموقف الشعب السوداني وقيمه ومبادئه، مطالباً المجلس السيادي بالإعلان فورا عن تبرؤه من هذا الموقف المنافي لوجدان الشعب وكرامته وعزة أهله".
الصادق المهدي: الاجتماع لا يحقق مصلحة وطنية
بدوره، قال رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي إن اجتماع البرهان بنتنياهو "لا يحقق مصلحة وطنية للسودان، ولا مصلحة القضية الفسلطينية".
وأوضح المهدي، في مؤتمر صحافي عقده اليوم الثلاثاء بمدينة الجنينة، غربي البلاد، أن التعامل مع نتنياهو "خط أحمر، لأنه ملاحق جنائياً في بلاده، ويتخذ نهجاً عنصريا في قيادة إسرائيل، على أساس أنها دولة يهودية، ويسعى لتجريد أكثر من مليون فلسطيني من جنسيتهم، فضلا عن اتباعه لسياسة فيها مواجهة ورفض القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية، ما يقفل الباب نهائيا أمام السلام العادل في مشكلة الشرق الأوسط".
وأضاف أن "أي لقاء مع مثل هذا النوع من القيادات الإسرائيلية لا يحقق مصلحة وطنية للسودان، ولا مصلحة عربية، ولا مصلحة فلسطينية، وليس فيه حل لقضايا الشرق الأوسط الملتهبة"، التي قال إن "أي احتقان فيها سيعطي مبرراً كبيراً لحركات الغلو والعنف في المنطقة".
وأشار إلى أن "من أهم أسباب المشكلات الموجودة في العالم قضية الشرق الأوسط، وما لم تعالج بالعدل ستكون مصدرا للغلو والتطرف".
التجمع الاتحادي: خرق للوثيقة الدستورية
بعد موقف الصادق المهدي، أصدر التجمع الاتحادي، أحد المكونات الرئيسة لتحالف الحرية والتغيير الحاكم، بياناً رفض فيه اجتماع البرهان ونتنياهو.
وقال التجمع إنه لم يتم إخطارهم ضمن كتلة الحرية والتغيير بزيارة البرهان لأوغندا، وأنه علم بنتائجها من خلال وسائل الإعلام، واعتبر الاجتماع "خرقا واضحا للوثيقة الدستورية الموقعة بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، التي لا تمنح نصوصها مجلس السيادة أية اختصاصات تتعلق بتحديد السياسة الخارجية للبلاد".
وأضاف البيان أن الطريقة التي تم بها الترتيب للقاء تمثل "مؤشرا خطيرا وجرس إنذار لانفراد مجلس السيادة باتخاذ قرارات لا تدخل ضمن اختصاصه"، مشيرا إلى أن المكون المدني داخل مجلس السيادة "لم يكن على علم بأمر اللقاء".
وأعلن التجمع تمسكه بـ"إكمال هياكل السلطة الانتقالية متمثلة في تعيين الولاة وتشكيل المجلس التشريعي الانتقالي، حفاظاً على الحكومة الانتقالية ".
من جهته، قال أسامه توفيق، القيادي بحركة "الإصلاح الآن"، المحسوبة على التيار الإسلامي، إن الحركة ستعقد اجتماعا لتحديد موقف واضح من لقاء البرهان نتنياهو والدعوة للتطبيع مع إسرائيل، مبيناً أنه "شخصيا ضد التطبيع الذي لم تجن منه دول عديدة شيئاً مثل مصر وإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان والنيجر".
وأشار توفيق إلى أن اللقاء بيّن بصورة واضحة أن من يحكمون السودان الآن هم العسكر وليس المدنيين، داعيا المكون العسكري لاتخاذ موقف لو أن لديه المبادئ الكافية وليس رغبة في الجلوس على كرسي السلطة مهما كان الثمن.
وأوضح أن الحكومة تهرب بمثل تلك الخطوات مما يعانيه الشعب في الخبز والوقود هذه الأيام، وتبحث عن مواضيع لإلهاء الشارع الذي يعجز عن توفير لقمة العيش الشريفة.
من جانب آخر، يرى البروفيسور بكلية أصول الدين بجامعة أم درمان الإسلامية، أحمد صباح الخير، أن "تجارب التطبيع في دول عربية أخرى أثبتت بشكل قاطع أن الوجدان الشعبي لا يمكن ترويضه لصالح أي علاقة وتطبيع مع الكيان الصهيوني"، مشيراً بحديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن "السودان هو البلد الوحيد الذي يكتب في جوازه مسموح السفر به لكل البلدان عدا إسرائيل، ولن يكون هناك تطبيع على المستوى الثقافي أو الأكاديمي أو الرياضي وكل ما هو بعيد عن السياسة".
ورأى أن "البرهان سيق سوقاً للقاء تحت ضغط أميركي يسعى للمحافظة على مصالح إسرائيل في المنطقة، وفي السودان على وجه التحديد، ومن أهمها مياه النيل، هذا غير تخوفها من العقيدة الإسلامية في السودان".
أما المحلل السياسي، ياسر عبد الله، فيبدي دهشة من ذهاب حكومة جاءت بها الثورة لتتصالح مع دولة العدو الإسرائيلي التي اغتصبت الأراضي الفلسطينية ومارست انتهاكات كبيرة في مجال حقوق الإنسان في مواجهة الشعب الفلسطيني، مبيناً أن ما قام به البرهان يتنافى تماماً مع مبادئ الثورة، وبه خرق للوثيقة الدستورية التي لا تمنح البرهان ومجلس السيادة ككل الإذن بالقيام بتلك الخطوة. وهو تغول يراه أخطر من التطبيع لأنه يمس العمل المؤسسي لهياكل السلطة الانتقالية ويهدد الثورة ككل.
وأضاف عبد الله في تصريح لـ"العربي الجديد" أن السودان دخل ضمن ترتيبات "صفقة القرن" وسيخسر كثيراً منها، لأنه دخل من دون حسابات موضوعية، لا سيما أن الصفقة تجد الرفض عربياً وداخل إسرائيل نفسها، وحتى داخل أميركا، بالتالي لن يجني السودان إلا السراب. وأكد أن كل الاحتمالات باتت مفتوحة في البلاد بعد هذا الحدث بما في ذلك انهيار الشراكة بين العسكريين والمدنيين.
ترتيب إماراتي
وما زالت تساؤلات عديدة مطروحة بشكل واضح حول من رتب لهذا اللقاء، وبدأت داخلياً كذلك أصابع الاتهام تشير للإمارات العربية المتحدة بأنها مهندس اللقاء، حيث اختارت المكون العسكري الأقرب إليها من المكون المدني. وهذا الحديث، الذي تعززه تقارير صحافية عديدة، يكشف نوايا أبوظبي باختطاف كلي للثورة من الآن وصاعداً، وتكرار سيناريو سرقة الثورة في مصر، ونقله بتفاصيله للسودان.
وفي السياق، كشف مسؤول عسكري سوداني رفيع المستوى، لوكالة "أسوشييتد برس"، أنّ اللقاء رتّبته دولة الإمارات، وقال المسؤول السوداني إنّ اللقاء هدف إلى المساعدة في رفع السودان عن قائمة الإرهاب، التي أُدرج فيها في التسعينيات، عندما استضاف لفترة وجيزة زعيم تنظيم "القاعدة" آنذاك أسامة بن لادن وغيره من المتشددين المطلوبين.
وقال رئيس تحرير صحيفة "مصادر"، عبد الماجد عبد الحميد، لـ"العربي الجديد" إن الإمارات كانت في قلب الحدث وخططت للقاء وأشرفت عليه، وساقت البرهان إليه بصفتها وكيلا لإسرائيل في المنطقة.