انفجار جبل لبنان: من خطاب الكراهية إلى الرصاص

02 يوليو 2019
إرسلان (اليمين) وجنبلاط (اليسار) في لقاء سابق (حسين بيضون)
+ الخط -
لم يكن ما حصل في بلدة قبرشمون (في قضاء عاليه ـ جنوب شرقي بيروت) يوم الأحد الماضي، الحادث الأمني الأول في منطقة جبل لبنان، تحديداً منطقتي عاليه والشوف ـ شرقي بيروت، اللتين تغلب فيهما الأكثرية الدرزية. في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، بات الجبل صندوق بريد أمنياً وسياسياً، وأحد المعارك السياسية الأكثر وضوحاً بين "العهد" وبين المتضررين من موازين القوى التي أفرزت بعد انتخاب عون، وأبرزهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. حادثة أمنية كشفت إلى أي حدّ هو ضعيف السلم الأهلي في هذا البلد، كذلك أوضحت كم هو سهل ترجمة الاستفزاز السياسي والتصعيد إلى اقتتال بالسلاح، وكم أن هذا السلاح موجود بيد أحزاب (حتى بعيداً عن حزب الله وحركة أمل)، كذلك تُبيّن الحادثة إلى أي مستوى بلغ الاحتقان داخل الطائفة الدرزية التي لا تزال بغالبيتها توالي جنبلاط وزعامته العائلية - الحزبية - الإقطاعية، في مقابل أطراف مدعومين بقوة سياسياً وأمنياً ومالياً من الوسط السياسي الذي يمثل النظام السوري وحزب الله وإيران في هذا البلد.

لم يُكتب لزيارة رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، الذي يعرف بخطاباته الطائفية الاستفزازية ونكء جراح الماضي، لمنطقة عاليه حيث الأغلبية الدرزية، يوم الأحد، أن تمر مرور الكرام. لا شعبياً بالنسبة للدروز الذين يصطف أغلبيتهم خلف جنبلاط، ولا سياسياً بالنسبة للحزب التقدمي الاشتراكي، لكن الثمن كان قتيلين من مرافقي الوزير صالح الغريب، المحسوب على النائب الدرزي طلال إرسلان، المتحالف مع باسيل وطبعاً مع النظام السوري وحزب الله.

بدأ باسيل زيارته للجبل بخطاب ناري فتح فيه صفحات من الماضي، الذي يفترض أنه أغلق مع مصالحة الجبل عام 2001. رد أنصار الاشتراكي بقطع الطرقات لمنعه من استكمال جولته، قبل أن يسقط مرافقا الغريب في إطلاق نار في منطقة قبرشمون، ما دفع بكل الدولة إلى الاستنفار لتطويق ذيوله والحؤول دون انطلاق حرب أهلية. عملياً طوقت ذيول الحادث في انتظار المعالجات والاحتكام للتحقيقات والقضاء، على الرغم من حدة الخطاب السياسي، لكن بدا واضحاً هذه المرة غياب جنبلاط عن الحدث، قبل أن يخرج بتغريدة على "تويتر" طالب فيها بالتحقيق، وتوجه إلى باسيل من دون أن يسميه، واصفاً إياه بأنه "حديث النعمة سياسياً"، وداعياً إلى "إدراك الموازين الدقيقة التي تحكم هذا الجبل، المنفتح على كل التيارات السياسية دون استثناء، لكن الذي يرفض لغة نبش الأحقاد وتصفية الحسابات والتحجيم".

تعيد تغريدة جنبلاط إلى حوادث مشابهة حصلت، وخصوصاً حادثة الشويفات (العام الماضي) التي راح ضحيتها شاب محسوب على الحزب التقدمي الاشتراكي، بسلاح مسؤول في الحزب الديمقراطي الذي يتزعمه إرسلان، أو التوترات الأخيرة التي حصلت في الشوف بين أنصار جنبلاط وأنصار الوزير السابق وئام وهاب، في قصة يبدو أنه ستستمر فصولاً عنوانها الصراع بين جنبلاط وبين "العهد" وحلفاء العهد درزياً، في صراع نضج لدرجة أن ثمنه بات يُدفع دماً.

منذ عودة ميشال عون إلى لبنان عام 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، تبدلت موازين القوى التي رافقت المرحلة التي تلت اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية (1975-1990). منذ أن وقع الاتفاق كان الدروز عبر الحزب التقدمي الاشتراكي، شركاء في المحاصصة الطائفية، وكرّستهم هذه المرحلة رقماً صعباً في المعادلة. لكن عودة ميشال عون إلى لبنان، وخروج سمير جعجع من السجن، ورفع شعار استعادة صلاحيات المسيحيين، أصابت جنبلاط مباشرة، وخصوصاً في انتخابات عام 2009 التي أفرزت تراجعاً في كتلته النيابية من 16 نائباً إلى 11 نائباً، وصولاً إلى 9 نواب فقط في الانتخابات الأخيرة العام الماضي.

على مدار الأعوام الماضية كان جنبلاط يوصف بأنه "بيضة القبان"، بوصفه مرجحاً في اللعبة السياسية اللبنانية، وسامحاً في ميل كفة على حساب أخرى في مجلس الوزراء أو في مجلس النواب. هكذا نال اللقب عندما سمى نجيب ميقاتي لتأليف حكومة في عام 2011، إثر استقالة وزراء 8 آذار من حكومة سعد الحريري، مرجحاً بذلك كفة تأليف قوى 8 آذار لحكومة برئاسة ميقاتي، بعد أن أمن انقلاب جنبلاط أكثرية نيابية. ومنذ عام 2016 تاريخ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، عبر تسوية سياسية بين "التيار الوطني الحر" وتيار "المستقبل"، وبين الحريري وباسيل، تراجع دور أكثر من طرف على الساحة السياسية اللبنانية، لعل أبرزهم الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي رأى في التسوية تهديداً مباشراً لدوره، وتالياً لدور الدروز في المعادلة اللبنانية ما بعد اتفاق الطائف.

تعزز هذا الشعور لاحقاً مع توسّع "التيار الوطني الحر" حكومياً، ومع الأدوار المتعاظمة التي بات يتحكم بها باسيل. ضرب هذا الدور العلاقة بين تيار "المستقبل" والاشتراكي، حلفاء الأمس، وحلفاء ثورة 14 آذار (ضد النظام السوري وسلاح حزب الله)، بعد أن رأى جنبلاط أن "المستقبل" سلم البلد لباسيل، عبر صفقة محاصصة بينهما.
 
يقال في لبنان وفي الصالونات السياسية، بأن المرحلة وما تشهده هي إعادة تركيب للسلطة وتالياً للمحاصصة، وهو ما يوتر الوضع عموماً بين الأطراف المسيطرة اليوم، وتحديداً "التيار الوطني الحر" وبدرجة أقل تيار "المستقبل" الذي ينتقد بسبب هذه الشراكة مع باسيل، وأنه بات ملحقاً. وبات باسيل رئيس الحكومة الفعلي، طبعاً بغطاء من حزب الله، الذي يعتبر المؤثر الأول في اللعبة السياسية اللبنانية، بحكم فائض القوة لديه. وفق هذه المعادلة يعدّ جنبلاط المتضرر الأول، ويمكن القول إن الدروز متضررون بفعل الانتخابات الأخيرة التي صوّتوا فيها بنسبة تخطت الـ85 في المائة لصالح جنبلاط، ونظراً أيضاً للتاريخ اللبناني وللعلاقة بين مفهوم الزعامة وبين الطائفة الدرزية، التي تعتبر أكثر رسوخاً من الطوائف الأخرى، وأكثر ترابطاً.

الربط بين تراجع دور جنبلاط في المعادلة اللبنانية وتراجع دور الدروز عموماً، يدفع كثيرين من أبناء هذه الطائفة إلى الشعور بأن ثمة محاولة لاستهداف جنبلاط ودوره وتالياً دور الطائفة. ويستند هذا القول إلى جملة من المؤشرات بدأت بالقانون الانتخابي وفق النسبية، الذي نجح في تحجيم كتلة جنبلاط، وخصوصاً امتدادها خارج الطائفة الدرزية. عادة كانت كتلة اللقاء الديمقراطي تضمّ شخصيات درزية وأخرى من الطوائف الأخرى، أمنت لجنبلاط حيثيته السياسية منذ ما بعد الطائف، وخصوصاً أن الطائفة الدرزية لها 8 مقاعد درزية فقط من أصل 128.

فاز جنبلاط في الانتخابات الأخيرة بـ6 مقاعد درزية من أصل 8، فيما دعم مرشح حركة أمل في قضاء حاصبيا أنور الخليل، وفاز إرسلان وحيداً من خارج الاصطفاف الدرزي حول جنبلاط، لكن المرحلة التي تلت تأليف الحكومة، أوضحت الصورة بالنسبة لجنبلاط وكشفت للبعض أن الوضع سيشهد مواجهة مباشرة حتى تاريخ الانتخابات المقبلة عام 2022، وخصوصاً أن "التيار الوطني الحر" وبعد تحجيم كتلة جنبلاط نقل المعركة إلى البيت الدرزي الداخلي، عبر اشتراط تمثيل ما تسمى المعارضة الدرزية التي تضم الشخصيات المعارضة لجنبلاط في الحكومة بمقعد من أصل 3 على الرغم من نتائج الانتخابات وما أفرزته.

رضخ جنبلاط تسهيلاً لمهمة تأليف الحكومة، لكن في المقابل بدا واضحاً أن مشروع مواجهته درزياً بدأ ينضج، وخصوصاً مع ما يحكى عن محاصصة في التعيينات المقبلة، وعن الحصة الدرزية، وعن مشاركة المعارضة الدرزية أو تقاسمها هذه الحصة مع جنبلاط، بنسبة ثلث مقابل ثلثين، وهو ما رفضه جنبلاط ووتر العلاقة مع الحريري أخيراً. في الشكل، لا شك بأن الملفات المتراكمة بين جنبلاط وباسيل كثيرة. تبدأ من الملف الدرزي، وخصوصاً إرسلان حليف باسيل، ولا تنتهي بمحاولات باسيل المتكررة ضرب مصالحة الجبل بين جنبلاط والبطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير، وذلك ما يفسر التصريحات المتكررة لباسيل، التي توصف بأنها عنصرية وطائفية. لكن يبقى السؤال الرئيسي ما إذا كان الأمر عبارة عن معركة بين باسيل وجنبلاط حصراً بفعل التوازنات اللبنانية - اللبنانية، أم أن للمحور الذي يمثله باسيل وينتمي إليه دوراً وغاية، وخصوصاً "حزب الله" والنظام السوري؟

حتى الساعة يحاول "حزب الله" عدم الدخول مباشرة على خط الصراع في الجبل، لكن يمكن ملاحظة الدور الراعي الذي يؤديه، والذي يؤمن عبره حماية للحلفاء، ودور الراعي للعبة السياسية اللبنانية، من دون الدخول مباشرة على خطها. وفي هذا السياق، يمكن وضع زيارة وزير الدولة لشؤون مجلس النواب محمود قماطي التابع لحزب الله، لخلدة لتقديم التعازي إلى إرسلان، مساء الأحد، وقوله: "ولى زمن المليشيات والمناطق المغلقة".

أما النظام السوري، وعلى الرغم أيضاً من عدم دخوله مباشرة على خط الأزمة، إلا أن ما حصل في سورية في السنوات الأخيرة، وضع جنبلاط في خانة المواجهة المباشرة مجدداً معه، وخصوصاً في ظل محاولات رئيس "التقدمي الاشتراكي" تحييد دروز سورية عن التورط في الحرب السورية، ونجاحه في إقناع زعامات درزية في رفض التجنيد في صفوف جيش بشار الأسد ومليشياته. وفق ذلك كله يفهم التصعيد الدرزي - الدرزي: ثمة نقمة واضحة في الشارع المحسوب على جنبلاط ضد الدور الذي تؤديه "المعارضة الدرزية"، وهو الأمر الذي أجج الشارع وأفرز أكثر من صدام مباشر بين أنصار جنبلاط وأنصار إرسلان أو أنصار الوزير السابق وئام وهاب. اليوم، تتجه الأمور إلى التهدئة في الجبل، لكن أكثر من مصدر سياسي في لبنان يؤكد أن المرحلة عنوانها السياسي حتى عام 2022 المواجهة بين جنبلاط وبين المعادلة السياسية، التي أفرزت بعد انتخاب عون عام 2016، وهو ما يعني توتراً سياسياً، وتوتراً أمنياً بين فترة وأخرى، بالحد الأدنى، إن لم يكن اصطفافات جديدة، بعد أن كرّس جنبلاط نفسه مواجهاً للتسوية الرئاسية.
المساهمون