فاتورة "البريكست"
يشكل الخلاف بين الطرفين حول التزامات بريطانيا المالية تجاه الاتحاد الأوروبي نقطة الخلاف الأشد تعقيداً حتى هذه اللحظة، فالفجوة كبيرة بين وجهات نظر الطرفين حول فاتورة "بريكست"، أو فاتورة الطلاق كما أصبحت تعرف. وأبدت تيريزا ماي، أول من أمس، استعداد بريطانيا لرفع عرضها الذي قدمته خلال كلمتها التي ألقتها في فلورنسا الشهر الماضي. وقالت ماي أن العرض بدفع 20 مليار يورو في ميزانية الاتحاد الأوروبي حتى العام 2021 ليس نهائياً. وعن إمكانية دفع بريطانيا للمبلغ الذي يطلبه الاتحاد الأوروبي والذي يصل إلى 60 مليار يورو، لم تجب ماي بالرفض القاطع، كما كان رد وزير خارجيتها، بوريس جونسون، بل أصرت على أن حكومتها ستدرس الطلب الأوروبي "سطراً بسطر". وشددت على أن بريطانيا لن تخلف بالتزاماتها المالية تجاه الاتحاد الأوروبي، لكنها تريد ضمان ألا يتحمل دافع الضرائب البريطاني أية أعباء إضافية. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل. فعلى الرغم من ترحيب الزعماء الأوروبيين بالتقدم في العرض البريطاني، إلا أن رئيس الوزراء الإيرلندي، ليو فارادكار يرى ضرورة "دعم هذه اللغة والمشاعر بالمزيد من التفاصيل". كما أن الغموض البريطاني يثير قلق الحكومة الألمانية، التي تطالب بريطانيا بتوقيع اتفاقيات مكتوبة تنص على التزاماتها المالية.
حقوق المواطنين
تعد هذه النقطة أقل إشكالية بين الطرفين، رغم عدم التوصل إلى اتفاق نهائي حولها بعد. إلا أن ماي كانت قد بعثت أخيراً برسالة إلى مئة ألف من مواطني الاتحاد الأوروبي يقيمون في بريطانيا بهدف طمأنتهم، إضافة إلى كونها بادرة حسن نية قبل لقائها بزعماء الاتحاد الأوروبي، إذ وعدت ماي مواطني الاتحاد بقرب الاتفاق بين الطرفين حول حقوقهم. وكان الاتحاد الأوروبي قد اتهم بريطانيا مسبقاً باستخدام مواطنيه كورقة تفاوض، وهو ما نفته ماي كلياً، مؤكدة على أهمية مساهمة المواطنين الأوروبيين في بريطانيا ورغبة حكومتها في بقائهم في البلاد. كما كان رئيس الوفد المفاوض البريطاني، ديفيد ديفيس، أكد، في ختام الجولة الخامسة من المفاوضات الثلاثاء الماضي، اتفاق الطرفين على معايير حقوق الإقامة، والعمل وامتلاك الأنشطة التجارية، والضمان الاجتماعي، وأفراد العائلة الحاليين، إضافة إلى حقوق الرعاية الصحية وحقوق العمال. إلا أن نقاط الخلاف تشمل الاعتراف بالمؤهلات الأكاديمية، وحق التصويت في الانتخابات المحلية، وحرية التنقل في الاتحاد الأوروبي، وحق لم الشمل العائلي. كما يختلف الطرفان حول دور محكمة العدل الأوروبية في ضمان حقوق مواطني الاتحاد المقيمين في بريطانيا. فبينما يصر الجانب الأوروبي على ضرورة خضوعهم لسلطة المحكمة الأوروبية أو جسم منبثق منها، يرى الجانب البريطاني أن هذا الأمر خط أحمر لا يمكن تجاوزه، إذ يرى فيه تعدياً على استقلال بريطانيا. لكن تيريزا ماي أظهرت ليناً في هذا الموضوع بعد خطابها في فلورنسا، عندما وعدت بالقبول بسلطة محكمة العدل الأوروبية خلال الفترة الانتقالية، التي قد تمتد لعامين بعد موعد خروج بريطانيا من الاتحاد في العام 2019.
إيرلندا الشمالية
تشكل حدود إيرلندا الشمالية مع الجمهورية الإيرلندية الحدود البرية الوحيدة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. ويرغب الطرفان في الحفاظ على حرية التجارة والتنقل بين الطرفين، إضافة إلى حماية اتفاق الجمعة العظيمة الذي أنهى الحرب الأهلية في إيرلندا الشمالية. لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يفضي، بناء على الاتفاق النهائي، إلى إقامة نقاط حدودية تفصل بين شطري الجزيرة، وهو ما يرفضه الاتحاد الأوروبي، نظراً للمشاكل التي سيجلبها لإيرلندا، وإلى حالة عدم الاستقرار في الشطر الشمالي منها. ويراوح الموقف الأوروبي الأخير عند تحميل بريطانيا مسؤولية إيجاد حل مناسب للحدود الإيرلندية، فالاتحاد الأوروبي يرى أن سبب المشكلة هو خروج بريطانيا من الاتحاد، ولذلك يتوجب عليها إيجاد حل يحفظ حرية التنقل واتفاق السلام في الجزيرة. والجانب البريطاني يرغب في تجربة حلول "مبدعة"، تعتمد في أساسها على التكنولوجيات المتقدمة في إقامة نقاط تفتيش حدودية مرنة. إلا أن هذه الحلول تثير قلق الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع البرلمان الأوروبي، الشهر الماضي، لتمرير اقتراح يفضي بالإبقاء على إيرلندا الشمالية ضمن السوق الأوروبية المشتركة، وبذلك تنقل نقاط التفتيش الحدودية إلى الموانئ الإيرلندية عوضاً عن إقامتها ضمن الجزيرة.
التجارة بين الطرفين
يرفض الطرف الأوروبي الدخول في المفاوضات التجارية مع بريطانيا قبل التوصل إلى تقدم مقبول في المفاوضات الأولية حول النقاط الثلاث المذكورة. وهو ما ترى بريطانيا عدم جدواه، وتجادل بأن التوصل لاتفاق حول هذه النقاط لا يمكن أن يتم من دون التطرق إلى المحادثات التجارية. فبريطانيا ترغب في البدء بهذه المحادثات بأسرع وقت ممكن، حتى تستطيع تعريف علاقتها التجارية بالاتحاد الأوروبي، وهو ما سيسمح لها بالتفاوض مع شركاء تجاريين آخرين حول صفقات تجارية مستقلة فور خروجها من الاتحاد الأوروبي في 2019. وكان زعماء أوروبيون نفوا حصول التقدم المطلوب في المفاوضات الأولية، وبالتالي لن يباشروا المحادثات التجارية مع بريطانيا، إلا أنهم، وفي محاولة لكسر الجمود الحاصل والتفاعل مع لين الموقف البريطاني، اتفقوا على بدء المشاورات الداخلية بين دول الاتحاد حول المفاوضات التجارية مع بريطانيا للتوصل إلى مطالب موحدة من لندن. ويرى الاتحاد الأوروبي أن المرحلة المقبلة من المفاوضات، والتي ستشمل المعاهدات التجارية، ستكون أشد صعوبة من المفاوضات الأولية والتي لم يتم التوصل إلى اتفاق حولها بعد.
سيناريو عدم الاتفاق
أدى فشل المفاوضات بين الطرفين حتى الآن إلى طرح سيناريو عدم الاتفاق كاحتمال جدي. ففي حال لم يتفق الطرفان، بحلول مارس/آذار 2019، ستجد بريطانيا نفسها فجأة خارج الاتحاد الأوروبي من دون اتفاقيات تحدد علاقتها معه. ويعني هذا الأمر اعتماد الطرفين على الاتفاقيات خارج إطار الاتحاد الأوروبي، مثل التزاماتهما تجاه منظمة التجارة العالمية واتفاقات لاهاي للتعامل مع الحدود بين الطرفين. إلا أن المخاوف من هذا السيناريو تأتي من حالة التشاحن وعدم الثقة بين الطرفين، والتي قد ينجم عنها سياسات لا تخدم المصالح الاقتصادية للطرفين. وبالتالي فإن أسوأ الاحتمالات المقترحة يضم إنهاء معاهدات الطيران مع الاتحاد، وبالتالي منع الطائرات البريطانية من الهبوط في المطارات الأوروبية. كما يشمل أيضاً الفوضى في المعابر والموانئ الحدودية، إذ ستتشكل صفوف طويلة من الشاحنات بانتظار تفتيشها ومرورها عبر نقاط التفتيش الجمركية الحدودية، وهو ما يحمل تبعات كارثية على إيرلندا الشمالية. كما قد يضع ذلك المواطنين الأوروبيين في بريطانيا، والبريطانيين في الاتحاد الأوروبي، في مهب الريح نظراً لغياب الاتفاقيات التي تنظم أوضاعهم. وبالطبع توجد سيناريوهات عدم اتفاق أقل سوءاً، إذ توجد بعض الاتفاقات الجزئية، بينما تنظم المعاهدات الدولية بعضاً من أوجه العلاقة بين الطرفين. إلا أن ماي كانت قد اقترحت، في خضم تحضيرها للسيناريو الأسوأ، بناء بنية تحتية ضخمة على المعابر الحدودية لاستيعاب العدد الهائل من الشاحنات المتوقع أن تنتظر على الحدود البريطانية. وبينما يبدي الطرف الأوروبي موقفاً موحداً من المفاوضات مع لندن، تظهر بريطانيا في وضع ضعيف، نتيجة لضعف حكومة ماي وفقدانها للأغلبية البرلمانية، إضافة إلى النزاعات الداخلية في صفوف حزب المحافظين الحاكم، وهو ما يزيد من تعقيد المفاوضات.