تجد سادسُ حكومةٍ تونسية منذ الثورة نفسها أمام وضع اقتصادي واجتماعي يتسم بالصعوبة والخطورة، وهو ما جعل أغلب وزرائها ينطلقون مباشرةً في نشاطهم الميداني، في رسالة منهم إلى الرأي العام المتحفز، والذي ينتظر نتائج عاجلة وملموسة. لقد طويت مرحلة يوسف الشاهد بنجاحاتها النسبية وإخفاقاتها الضخمة، والمطلوب من الفريق الجديد أن يعيد الأمل في إمكانية إخراج البلاد من النفق الذي دخلت فيه بسبب عدم الاستقرار السياسي، وأسلوب الارتجال الذي مارسه أغلب الذين تولوا السلطة للمرة الأولى في حياتهم.
لم يبق من فريق الشاهد سوى ثلاثة وزراء: وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم، ووزير الطاقة والمناجم والإصلاح الطاقي منجي مرزوق، المستقل والمشهود له من الجميع بالكفاءة والنزاهة، ووزير الشباب والرياضة أحمد قعلول من حركة "النهضة". هذا يعني أن هناك رهاناً على تجديد الدورة الدموية داخل أجهزة الدولة، ولا يعكس ذلك بالضرورة حصول قطيعة بين الفخفاخ والشاهد الذي كان قد اختار ترشيح الأول لرئاسة الحكومة، ما دفع مراقبين وجزءاً واسعاً من النخب السياسية للتساؤل حول مدى وجود اختلافات جوهرية بين الرجلين في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية.
لكن لكلٍّ من الفخفاخ والشاهد مساراً مختلفاً. ظهر يوسف الشاهد فجأة عندما جعل منه الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي رئيساً للحكومة بعد تجربةٍ قصيرة على رأس إحدى كتابات الدولة، في حين عُرف الفخفاخ عضواً قيادياً في حزب "التكتل للعمل والحريات"، ثم وزيراً للسياحة والمالية خلال مرحلة "الترويكا". بعد ذلك، انهار الحزب ووجد نفسه خارج البرلمان. ومن دون بقية المرشحين، وجد الفخفاخ نفسه الشخصية الأقدر لدى رئيس الجمهورية قيس سعيّد لقيادة الحكومة الجديدة. ومن يعتقد أن السياسة محكومة بعلمٍ صارم، فهو مخطئ تماماً.
اليوم كل الورش مفتوحة، وجميعها تتطلب وعياً عميقاً وكفاءة في التسيير وقدرة على ابتكار الحلول. لكن الفخفاخ مدعو إلى التركيز في مرحلة أولى وعاجلة على ثلاث مسائل تعتبر مهمة جداً لخلق مناخ سياسي مستقر يسمح له بالعمل والإنجاز، ويمكنه من الحصول على ثقة التونسيين.
يتعلق الملف الأول باستمرار أزمة الثقة بين رئيس الجمهورية وحركة "النهضة". ويمس هذا الخلاف بالصلاحيات الدستورية، وهو مرتبط بمستقبل النظام السياسي في البلاد. يعتبر قيس سعيّد أن تونس لها رأس واحد ورئيس واحد، ويرى أن أيّ تأويل لهذه المسألة هو بمثابة الدعوة إلى الفوضى، وخلق دولة داخل الدولة. من جهتها، تعتبر "النهضة" أن هذا الرأي خاطئ دستورياً، لأن النظام في تونس برلماني، والنظام الرئاسي اختفى مع الثورة، وأن السلطة قد انقسمت إلى ثلاث. هذا الاختلاف ليس هيّناً، ومن دون توحيد وجهات النظر، ستبقى السلطة معرضةً للتنازع والتجاذب بين رئاستي الدولة والبرلمان.
الخلاف الثاني كامنٌ في تركيبة الحكومة، إذ من المعلوم أن الائتلاف الحاكم حالياً قائمٌ بين أحزاب تشقها تناقضات هي أشبه بقنابل موقوتة، وتسكنها أزمة ثقة عميقة لا تزال واضحة المعالم، حتى بعد مرور الحكومة. فمن جهة، يقف "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" اللذان دارت بينهما صراعات قوية مع "النهضة"، واضطرتهما موازين القوى إلى القبول بالعمل معها ضمن حكومة واحدة. في حين تنظر الحركة بعين الريبة إلى هذين الحزبين، وخصوصاً حركة "الشعب"، بعدما تسببا في إسقاط حكومة الجملي. لهذا لم تكن "النهضة" مرتاحة للتقارب الشديد الذي حصل في البداية بين "الشعب" والرئيس قيس سعيّد، وتعزز في ما بعد بين "الشعب" و"التيار" والفخاخ، ورأت فيه عاملاً سيكون ضاغطاً عليها، ما جعلها تُصّر على أن يكون لها عدد واسع من الوزراء احتراماً لحجمها البرلماني، وثانياً العمل على توسيع الحزام السياسي للحكومة من خلال إشراك حزب "قلب تونس". وإذ نجحت في فرض الشرط الأول، تحاول الآن المرور إلى الطلب الثاني من خلال إشعار الجميع بكون مستقبل الحكومة واستمراريتها هما رهن إرادتها باعتبارها الحزب الأول والأكبر. وسيبقى هذا الأمر سيفاً مسلطاً على الفخفاخ طوال رئاسته للحكومة.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بالمفاوضات الصعبة خلال شهر مارس/ آذار الحالي مع صندوق النقد الدولي حول القسط الأخير من القرض الذي حصلت عليه تونس من الصندوق، والذي لا يمكنها التراجع عنه لأنها في أشد الحاجة إليه. ويعتبر هذا الملف من المسائل الشائكة التي دفعت بالكثيرين إلى اتهام الصندوق بممارسة الوصاية على البلاد، ويدفع بها نحو الإفلاس. ومن بين هذه الأطراف حركة "الشعب"، الشريكة في الائتلاف الحاكم، والتي سبق أن طالبت بعدم التعامل مع الصندوق، وإعادة النظر في مسألة ديون تونس، والتي شهدت خلال السنوات الأخيرة تصاعداً مخيفاً.