جيل ما بعد نظام البعث... ترسيخ دوامة كبح النمو

28 مارس 2016
تدمير عشوائي في المدارس السورية (وكالة الأناضول)
+ الخط -
يعتبر الاستثمار في تعليم الأطفال أحد أهم الاستثمارات الاقتصادية بحسب "مركز إجماع كوبنهاغن"، والذي يضم أبرز الاقتصاديين في العالم. حيث وضع لائحة بعشرة استثمارات يمكن اعتباراها "الأكثر فاعلية" وقد كانت سبعة منها تتعلق بشكل مباشر بالأطفال. كما يؤكد تقرير لمنظمة اليونسيف أن "حشد الموارد المالية لمساعدة الطفل على النمو والارتقاء بإمكاناته هو واجب أخلاقي قبل كل شيء، ولكنه مهم أيضاً من ناحية عملية، إذ يؤدي إلى نتائج إيجابية على الاقتصاد والمجتمع". وبحسب لوائح الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الطفولة، فإن الاستثمار بالطفل لا يقتصر على كونه "ضروري"، ولكنه يرقى ليشكل "واجباً إلزامياً"، ذلك أنه، وبحسب اليونسيف، "يساهم في تخفيض معدلات الفقر وفي زيادة المساواة والنمو الاقتصادي".
بالتأكيد، لم يكن الاستثمار بالطفل ورعاية قدراته يعني الحكومات السورية المتعاقبة في ظل حكم حزب البعث. ورغم أن الحزب ينسب إلى نفسه سياسة إلزامية ومجانية التعليم في المرحلة الابتدائية والثانوية في سورية، لكن السياسة المذكورة أقرت في الدستور السوري لعام 1950 قبل انقلاب حزب البعث واستيلائه على السلطة.

غياب المعايير

يعتقد الباحث الاقتصادي مناف قومان أن اهتمام الحكومة السورية بالطفل خلال المرحلة الابتدائية كان "ضعيفاً مقارنة ببلدان أخرى". يقول قومان لـ "العربي الجديد": "لم تراع المدارس السورية الحكومية شروط عدد الطلاب في الصف بما يتناسب، أو يقترب، من المعايير العالمية الموصى بها. فتجد في الغرفة الواحدة بين 30-50 طفلاً مقابل 15 طالباً في الصفوف المثالية، ولقد كان اكتظاظ المدارس يرتفع باستمرار في ظل النمو السكاني السريع، وتواضع الإنفاق الحكومي على التعليم حيث بقي بحدوده الدنيا".
كما شمل ضعف الإنفاق الحكومي أيضاً بحسب قومان البنى الخاصة بممارسة الرياضة (ملاعب وغيرها من التجهيزات)، إذ كانت "حصة الرياضة في المدرسة عبارة عن حصة للفراغ". ويمتد ضعف الإنفاق الحكومي ليشمل أيضاً صحة الأطفال والدعم النفسي. وفي حين عمدت الحكومة السورية في العقد الأخير إلى "تعيين مرشد نفسي في كل مدرسة، إلا أن المرشد لم يكن على درجة كافية من الخبرة". وأخيراً، يشير قومان إلى أن "التعليم كان نظرياً إلى حد كبير ولا يتضمن استخدام المختبرات والرحلات العلمية، أو استخدام الأجهزة الحديثة، وهو ما جعل انعكاساته الإيجابية على الاقتصاد وعلى سوق العمل متواضعة جداً".
يرصد الباحث كمال يوسف في حديث لـ"العربي الجديد" إهمال الحكومة السورية في إعداد برامج خاصة بتنمية الطفل في مراحله المبكرة جداً أي في السنوات العشر الأولى ويشمل ذلك الحدائق الخاصة بالأطفال ومراكز الترفيه وتنمية المهارات. ويوضح يوسف أن "العديد من الدول تهتم بتنمية مهارات الطفل ترصد موارد مالية كبيرة وتضع هذه المسألة من ضمن أولويات خطط التنمية، فيما يغيب ذلك عن معظم الدول العربية وعن سورية". ويضيف: "للتهرب من تلك المسؤولية، تتذرع الحكومة بعدم توفر أموال كافية أو بأن هناك أولويات للإنفاق العام ليس من ضمنها برامج خاصة بتنمية الأطفال ويعكس ذلك الجهل العميق بأهمية هذه المسألة وانعكاساتها الاقتصادية".

ويشير تقرير لمنظمة اليونيسيف، إلى أن "الاستثمار بموارد مالية متواضعة خلال فترة الطفولة المبكرة يمكن أن يسفر عن مكاسب كبيرة طيلة حياة الطفل، كما تمتد المكاسب إلى المجتمع والاقتصاد". ويضيف التقرير "إن الاستثمار بالأطفال بات يعتبر أحد أنجح الاستثمارات طويلة الأجل وأكثرها فاعلية".
في ظل الحرب المدمرة التي يشنها نظام الأسد منذ سنوات، لم يعد حرمان الطفل السوري يقتصر على حقه في تعليم جيد، أو في مراكز ترفيهية وبرامج تطور مهاراته، إذ باتت المطالب تتلخص في الحق بالحياة، الحق بالتعليم، الحق بالوصول إلى الحد الأدنى من الغذاء، أي غذاء.
دت الحرب الشرسة في سورية إلى أن يصبح أكثر من ثلاثة ملايين طفل سوري خارج النظام التعليمي.
ويسجل تقرير حديث صادر عن منظمة "سايف ذا تشيلدرن" حدوث أكثر من 4 آلاف هجوم على المدارس في المناطق السورية خلال السنوات الماضية، معظمها بالقصف الجوي من قبل النظام، ولكنها تشمل أيضاً سيطرة المسلحين على تلك المدارس، واستخدامها مقار أو مراكز احتجاز. كما يخلص تقرير "سايف ذا تشيلدرن" إلى أن أكثر من نصف الأطفال السوريين في المناطق المعارضة غير قادرين على الذهاب للمدرسة لأسباب مختلفة، أهمها قلة عدد المدارس، وانعدام الأمن، وقلة عدد الأساتذة، حيث يقدر التقرير أن 20 في المائة من الأساتذة نزحوا أو قتلوا في أثناء الحرب في السنوات الماضية.

نجحت المحاولات في إنشاء مدراس بديلة في المناطق المحررة، ولكن أعداداً كبيرة من الأسر السورية "ترفض إرسال أبنائها للمدرسة خوفاً من تعرضها للقصف" بحسب الناشط السوري فضل شرف الدين. يقول شرف الدين لـ"العربي الجديد": "قمنا بإعداد برامج مهنية حيث نحاول تعليم الأطفال مهنة في الأماكن التي يصعب فيها توفير نظام تعليمي ذي جودة معقولة". ويضيف: "من تلك المهن، الخياطة والحدادة وميكانيك السيارات والكهرباء، وتفضل بعض الأسر أن يحصل أبناؤها على تعليم مهني عسى أن يساعدهم ذلك في تأمين قوت يومهم في وقت لاحق".
لم يكتف النظام السوري بوضع أطفال سورية في سجن رمزي عبر الحد من قدراتهم وتشويه إمكاناتهم بل كان خلال الأعوام الخمسة الماضية شديد الحماس لزجهم في سجن حقيقي. يقول شرف الدين "إن سجون النظام تحتوي على آلاف الأطفال حيث يتعرضون للتعذيب الشديد مثل البالغين". بحسب تقرير منظمة "سايف ذا تشيلدرن" فإن أقل التقديرات تشير إلى أن ربع مليون طفل يعيش في مناطق محاصرة من قبل النظام السوري، وقد تحولت إلى سجن كبير من دون سقف أو جدران. ويوضح التقرير حجم المعاناة التي تصيب الأطفال السوريين حيث "يموت الأطفال المرضى بسبب نقص الأدوية التي تتواجد على الطرف الآخر من حاجز التفتيش الذي يفرض الحصار"، كما يضطر الأطفال إلى أكل العلف الحيواني وأوراق الشجر فيما لا تبعد عنهم مستودعات الغذاء أكثر من بضعة كيلومترات.
يعتبر الباحث كمال يوسف أن التدمير الممنهج الذي يتعرض له الأطفال السوريون شديد الخطورة على مستقبل البلاد. وبلغة اقتصادية، فإن الظروف القاسية، وخصوصاً الحرمان من التعليم والعمل، سوف يؤدي لانحدار كفاءة العامل السوري في المستقبل، كما سيقلص من إمكانية الحصول على عمالة متنوعة يمكن أن تدير عجلة الاقتصاد وتساهم في إعادة الأعمار. ويضيف: "باختصار، في ظل الوضع الحالي، سوف يكون لدينا في المستقبل القريب جيش من العمال غير المتعلمين وغير المهرة".

أقرأ أيضاً:فشل السياسات الاقتصادية يوسّع النزوح الداخلي
المساهمون