نقص الأجهزة الطبية في مشافي الخرطوم... موت غير رحيم

28 نوفمبر 2016
43 اعتداءً على أطباء سودانيين لنقص الأجهزة الطبية(العربي الجديد)
+ الخط -
فقدت السبعينية السودانية فاطمة علي حياتها، بينما كان ذووها وأطباء الطوارئ بمشفى بحري الحكومي يجوبون الصيدليات القريبة بحثاً عن جهاز تنظيم الأوكسجين، إذ إن الأنبوبة الوحيدة المتوفرة بقسم الطوارئ في المشفى الحكومي الذي يقع شمال الخرطوم تفتقر إلى الجهاز المسؤول عن تنظيم انسياب الأوكسجين إلى رئتي المرضى، والذي لا يتجاوز ثمنه 400 جنيه سوداني أي ما يعادل 16.5 دولاراً أميركياً.

يوميا تتكرر مأساة الحاجة فاطمة في قسم طوارئ مشفى بحري الحكومي، إذ يفقد نحو خمسة مرضى حياتهم، من بين كل عشر حالات يستقبلهم قسم الطوارئ الذي يعد الوحيد من نوعه في محافظة بحري، بحسب الطبيب المناوب في قسم طوارئ مشفى بحري، عادل عمر (اسم مستعار)، والذي رفض الكشف عن هويته خوفاً على سلامته الشخصية بعد تعرض زملائه للاعتقال إثر إضراب الأطباء الأخير احتجاجا على اعتداءات ذوي المرضي عليهم نتيجة لسوء الخدمة المقدمة للمرضى، وضعف الإمكانات وقلة الأدوات الطبية المساعدة.

ويوضح الطبيب عمر أن "مشفى أحمد قاسم الحكومي الذي يعد أحد المشافي الثلاثة التي تخدم محافظة بحري، يفتقر إلى قسم الطوارئ، كما أن مشفى حاج الصافي لديه قسم طوارئ صغير يحول الحالات إلى مشفى بحري، ما يهدد حياة المرضى في ظل نقص الإمكانات"، وهو ما أكده عضو لجنة أطباء السودان المركزية، الطبيب عبد المعز بخيت الأمين، نائب اختصاصي جراحة العظام، قائلا لـ"العربي الجديد": "رصدنا عدم وجود جهاز تنفس اصطناعي في العديد من المشافي الحكومية في السودان، كما لا يوجد سرير عناية مركزة واحد متكامل وفق المواصفات العالمية في كل أنحاء السودان، بالإضافة إلى عدم وجود أقسام للهندسة الطبية داخل المشافي تُعنى بصيانة الأجهزة الطبية وتشرف على عمليات الشراء".


غياب أجهزة إنقاذ الحياة


تضم محافظة الخرطوم بحري ثلاثة مشافٍ حكومية أكبرها مشفى بحري الذي يغطي احتياجات 80% من سكان المحافظة التي يفوق عدد سكانها المليوني نسمة بقليل وتصل سعة المستشفى السريرية إلى 600 سرير، وفق إفادة مسؤول الإعلام في مشفى بحري، محمد عبدالله، والذي أوضح أن المشفى يستقبل مرضى من خارج ولاية الخرطوم، متابعا أن مشفى أحمد قاسم المتخصص في علاج الأطفال يعد ثاني مشافي المحافظة، وتبلغ سعته السريرية 135 سريراً ويليه مشفى حاج الصافي الذي تبلغ سعته 110 أسرة موزعة على مختلف الأقسام.
 ووفقاً لما وثقته معدة التحقيق عبر جولة في مشافي بحري الحكومية، فإن قسمي الطوارئ في مشفى بحري ومشفى حاج الصافي، يفتقران إلى جهاز الصدمات الكهربائية، وجهاز رسم تخطيطي للقلب، وشاشة لقياس العلامات الحيوية، وصندوق الأدوية المنقذة للحياة، وجهاز قياس نسبة الأوكسجين والسكر، وجهاز استنشاق البخار لمرضى الربو، وجهاز شفط السوائل، وأنابيب الصدر بالإضافة إلى أجهزة قياس الضغط والسماعات، بالإضافة لمنظمات أسطوانات الأوكسجين بكل أقسام الطوارئ، وهو ما أكده نائب اختصاصي طب الأمراض الباطنية، الطبيب محمد المجتبى الذي وصف تلك الأجهزة بأنها "منقذة للحياة"، وغيابها يؤثر بشكل مباشر على الوضع الصحي للمرضى ويهدد حياتهم.

ولا يتوفر جهاز الصدمات الكهربائية في المشافي الثلاثة التي تخدم ضاحية بحري بجميع أقسامها، ولم يكن الحال أفضل بالنسبة لأجهزة قياس السكر، حسب ما جاء في مذكرة رفعتها لجنة الأطباء إلى وزارة الصحة مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحذرت المذكرة من انعدام وجود أجهزة المونيتور (الشاشات الخاصة بمتابعة حالة المرضى) في جميع أقسام الطوارئ في مستشفيات مدينة بحري.




الموت غير الرحيم

تصف أمل كمال، نائب اختصاصي أمراض القلب في مشفي بحري، وضع المرضى في غياب الأجهزة الطبية بـ"القتل غير الرحيم"، إذ لا يتوفر في قسم الطوارئ سوى جهاز قياس ضغط الدم وجهاز تخطيط القلب والذي كثيرا ما يتوقف عن العمل. وتضيف حينما لا يتوفر لدينا في قسم طوارئ بحري جهاز للإنعاش نقوم بالاتصال بمشاف أخرى خاصة أو حكومية لكن الرد يأتينا بعدم وجود جهاز شاغر، ما يشي بخلل شامل في النظام الصحي، الذي لا يوفر حتى الأوراق المخصصة لكتابة الوصفات الطبية. الأمر الذي أدى بالطبيبة أمل وزميلاتها وزملائها إلى كتابة الوصفات العلاجية على أوراق عادية.


وبسبب اختفاء الأجهزة الطبية شارك الطبيب أحمد الطيب في إضراب الأطباء الأخير إذ امتنع عن العمل في مشفى بحري، متسائلا عن سبب وضع الأجهزة ومعدات أقسام الطوارئ في المخازن، في الوقت الذي يموت المرضى بسبب غيابها، قائلا "في بعض الأحيان لا يوجد سوى جهاز واحد لقياس ضغط الدم في كل الطوارئ".

ويضيف زميله عبدالله عمر أن المشفى يفتقر إلى النقالة الطبية الخاصة بحمل المرضى، متابعا "كثيرا ما نجمع قيمة الدواء أو تكلفة عملية منظار، لأن حالة المريض تكون حرجة، ولا يمتلك الثمن".

ويبدي المختص في الطب العام بمستشفى حاج الصافي الحكومي، محمد أحمد، تعجبه من نقل أجهزة قسم الطوارئ قبل انتهاء أول أربع وعشرين ساعة من إضراب الأطباء، وهو ما تكرر في مشافي أم درمان، ومستشفى ودمدني في ولاية الجزيرة وسط السودان، ما جعل ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي يطلقون حملة تحت شعار "أخرجوا الوطن من المخازن" في إشارة إلى تخزين الأجهزة الطبية في المخازن الحكومية.

ودعا الناشطون البرلمان إلى محاسبة كل من ساهم في عملية تخزين الأجهزة الطبية، بينما نفى وزير الصحة الاتحادي بحر ادريس أبوقردة تخزين الأجهزة الطبية في المخازن، قائلاً في تصريحات صحافية: "المعدات التي تم توزيعها على المشافي مؤخرا، لم تكن مخزنة بمستودعات الإمدادات الطبية، وإنما تم شراؤها بتكلفة بلغت 4 مليارات جنيه (200 ألف دولار) لتوزيعها على المستشفيات الحكومية في ولايات السودان".


43 حالة اعتداء على الأطباء

أدى تردي تقديم الخدمات الصحية في المشافي الحكومية إلى موجة من الغضب ساهمت في تنامي ظاهرة الاعتداء على الأطباء من قبل مرافقي المرضى، وهو ما وقع في قسم طوارئ مشفى أم درمان غرب الخرطوم والذي تم تحطيمه بالكامل بعد وفاة مريض نتيجة انعدام الأجهزة الطبية وربط عملية إسعاف المريض باستخراج ما يعرف بأورنيك (8) وهو قرار صادر من وزارة العدل بمقتضاه لا يُسمح بإسعاف المرضى المصابين في حوادث ما لم يتم استخراج الأورنيك من السلطات المختصة لمعرفة الدوافع الجنائية وراء الحادث.

وتكشف إحصائية حصلت عليها "العربي الجديد" عبر مجموعة أطباء بلا حقوق (فرع من لجنة أطباء السودان المركزية)، أن عدد مرات الاعتداء على الأطباء بلغ 43 حالة في الفترة من أغسطس/آب 2015 وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2016، من بينها 33 حالة تمت من قبل مواطنين و10 حالات من قبل أفراد من الشرطة أو الجيش مرافقين لذويهم المرضى. "غير أن هذا الرقم لا يعكس العدد الحقيقي للاعتداءات بسبب التكتم على الكثير منها" كما يقول الدكتور عبد المعز عضو لجنة أطباء السودان المركزية، قبل أن يتابع "الطبيب دائما الضحية، المشافي لا تحمي الأطباء والمستشار القانوني فيها لا يقوم بدوره في العديد منها، من أجل المضي قدما في الإجراءات القضائية في مواجهة المعتدين".

بالمقابل يرد وكيل وزارة الصحة في ولاية الخرطوم الدكتور عصام الدين محمد عبد الله بأن تقديم الخدمات الصحية بجودة عالية للمواطن السوداني، وتوفير الأجهزة وأدوية الطوارئ بالمشافي المختلفة، يعد من أهم واجبات الحكومة بغض النظر عن موقفها من مجموعة الأطباء التي توقفت عن العمل. وأضاف الطبيب عبدالله: "نحرص على توفير تلك المعينات، ولا نربط ذلك بتوقف الأطباء أو عودتهم للعمل".

وكشف عبد الله لـ"العربي الجديد"، عن تخزين بعض المشافي للدواء والأجهزة في مستودعاتها بكميات كبيرة، فيما ينعدم في أقسام الحوادث والطوارئ، مؤكداً أنهم قاموا بمعالجة هذا الخلل عبر مراجعة نظم الإمداد والتأكد من توفر الأجهزة والأدوية للمرضى بالحوادث ومنافذ تقديم الخدمة، وهو ما يتمنى الستيني علي محمد تحققه على أرض الواقع حتى لا تتكرر معاناته، إذ نزع الأطباء أسلاك جهاز المونيتور الوحيد في غرفة الطوارئ من جسده لتوصيله إلى الحالات الجديدة التي دخلت إلى القسم، مع الاعتذار له بأن المرضى الجدد حالتهم أخطر وأنهم سيعيدون توصيله بالجهاز بعد الاطمئنان عليهم.