مشاهدات عائد من سورية... دمشقان متناقضتان سلماً وحرباً

05 سبتمبر 2019
القلق مما يخبئه المستقبل منتشر بين السوريين (العربي الجديد)
+ الخط -

ما إن تدخل أحد الفنادق الراقية في العاصمة السورية دمشق خصوصًا بداية المساء أو أواخر الليل حتى يصدمك المشهد الذي تراه؛ سيارات فارهة بأنواع مختلفة بعضها ذو طراز 2019، وحفلات أعراس باذخة، وجلسات في مقاهٍ ومطاعم راقية يُحييها فنانون ومغنون، ليقفز في ذهنك سؤالٌ: هل السوريون في حالة حرب؟ وهل تجاوزوا الأزمة؟ أم أننا أمام عالمين مختلفين ودمشقين لا تلتقيان سلما ولا حربا.

الإجابة تتكشف لك ملامح منها مع خروجك من قلب العاصمة إلى الأحياء الواقعة على أطرافها، حيث تنتشر مناظر المنازل المتهدمة، والأحياء التي سُوِّي بعضها بالأرض، والشوارع التي أصبح البعضُ منها خاويًا إلا من بعض القطط والزواحف. وما إن تواصل السير خارج دمشق حتى يتبدّى لك المشهد أكثر وضوحًا؛ ليُعلِمك بأن حربًا ضروسًا وقعت، ولم يسلم منها لا البشر ولا الشجر، ولا حتى الحجر؛ فالنيران أصابت كلّ شيء حتى المساجد والكنائس والمدارس وغيرها من المعالم الدينية والحضارية.

وفي خضم هذه المشاهد الصادمة لمن يراها أول مرة تعتقد الحكومة السورية بأن الرهان على تجاوز ذلك سيكون بالتركيز على السياحة التي كانت إحدى وسائل الدخل المهمة للاقتصاد السوري، إذ قامت مؤخرًا باستقطاب واستضافة وفود إعلامية من عدة دول عربية وأجنبية؛ وتنظيم جدول زيارات لهم زخر بالتجوال في العديد من المواقع داخل العاصمة وخارجها، وتزامن ذلك مع فترة انعقاد معرض دمشق الدولي في دورته الـ 61 الذي افتتح بحفل ضخم وكبير رعاه رئيس الوزراء السوري، وتخصيص فقرتين للاحتفاء بإيران وروسيا، وإبراز مشاركتهما في المعرض أكثر من بقية الدول المشاركة الـ 38 بشكل ملحوظ.



الإنسان السوري العادي سئِم الحرب، وملّ منها، ويريد الالتفات إلى قوت يومه، خصوصًا مع غلاء الأسعار، وفرض الضرائب والمخالفات، وانخفاض قيمة العملة، التي قال عنها أحد المواطنين السوريين (طلب عدم ذكر اسمه) إنها انخفضت بمقدار 10 أضعاف تقريبًا عمّا كانت عليه قبل الحرب، وهو ما أوجد "معادلة صعبة لدى المواطن في كيفية الموازنة بين الدخل والمصروف" حسب تعبيره. كما أن هذا الوضع أجبر البعض على الجمع بين عملين أو أكثر لسد الحاجيات المتزايدة.


ورغم ما حدث فإن الإنسان السوري يظل على سجيته في استقبال الضيف والزائر بابتسامته المعهودة، وبترحيبه الكبير دون الخوض في الجدالات السياسية إلا فيما ندر وبحديث موجز ومختصر دون تفاصيل، ودون إلقاء اللوم على الحكومة أو النظام.

ومن خلال الرحلات السياحية سواءً في دمشق أو خارجها يُلاحظ المتنقِل وجود حواجز، ونقاط تفتيش أمنية، يقف عليها حراسٌ يحملون الأسلحة، ويُطالبون سائقي الحافلات والمركبات بالأوراق الثبوتية والتصاريح.



وعند زيارة الأماكن التاريخية والقديمة كالمساجد والكنائس يُلاحَظ بأن بعضها تأثر بسبب الحرب، فها هو جامع خالد بن الوليد في حمص وصل الدمار إلى سوره الخارجي وأزاله، بينما أصبحت الحارات حوله خاوية من ساكنيها، وأضحت أطلالًا توضح مدى قوة الاقتتال الذي حدث، في مشهد صادم "لا يُمكن وصفه أو التعبير عنه في كلمات"، كما تمتم بذلك صحافي من إحدى دول أميركا الجنوبية وهو يقف في الساحة الخارجية، ويرى عن يمينه ويساره بيوتًا وعمارات أصبحت أنقاضًا، وآثارًا مرعبة لا تزال بادية للعنان.

كما لم يكن الحال أفضل في دير القديسين "سركيس وباخوس" بمدينة معلولا التي يقطنها مسلمون ومسيحيون، يتحدثون إلى جانب اللغة العربية باللغة الآرامية التي تُستخدم في "تراتيل" الصلوات بالكنائس والمعابد، داعيةً إلى "السلام ليعم العالم أجمع".


أما التأثير الواضح والكبير فيظهر في مدينة تدمر التاريخية التي لا يُعرَف كيف قوِي قلبُ من قام بفعلته فيها، وهو يُحطّم ويمحي آثارًا ظلت آلاف السنين شاهدةً على حضارات مرّت من هناك؛ فالأحجار سقطت على الأرض، وبعضها امحت رسوماته أو بدأت في التلاشي، بالإضافة إلى أن المسرح الموجود فيها تهدّم جزءٌ من وسطه الداخلي. وعند الذهاب إلى قلعة "الحصن" الشهيرة في حمص فإن التأثير فيها لا يبدو واضحًا كثيرًا إلا في تهدّم بعض الأجزاء منها مع بقاء هيكلها الخارجي الدائري على حاله.



ويُلاحظ أن خدمة الإنترنت رغم توفّرها في أغلب المناطق السورية، إلا أن برنامج المحادثة الشهير "واتساب" لا يعمل إلا عبر برامج كاسرة للشيفرات "بروكسي"، وتأتي برامج "الإيمو" و"التلغرام" و"فيسبوك" بديلًا عنه. كما أن التعامل المالي يكون بالنقد فقط، فالبطاقة البنكية "الفيزا" لا تعمل، ويصل سعر صرف الـ 100 دولار أميركي إلى حوالي الـ 600 ليرة سورية وقت الزيارة. ورغم ذلك إلا أن أسعار بعض السلع تبقى في مستوى عالٍ مقارنة بالرواتب والمدخول، وهو ما أكّده مُسن سوري وهو يقف أمام أحد المقاهي في سوق الحميدية بدمشق مُستغربًا من سعر سندوتش "الشاورما" الذي وصل الحجم الصغير منه إلى 500 ليرة.

وما بين المشهد الباذخ في الفنادق، والآخر المُزدحِم في الأسواق التقليدية، يبقى المواطنون السوريون حائرين من المستقبل، وخائفين مما قد يُخبئه لهم، رغم رهانهم الكبير على تجاوز المِحنة بالصبر والصمود، وتأكيدهم بأنهم اعتادوا على الوضع خلال فترة الحرب التي تجاوزت السنوات الثماني العجاف دون وجود أفقٍ واضحٍ لانتهائها، فهل سيستمر هذا "الألم" الظاهر في وجوه البعض؟ أم أن "الابتسامة" التي أطلقها بعض الأطفال توحي بأن هناك بارقة أمل تُعيد للسوريين روحهم وحياتهم الكريمة؟

دلالات