للصدام الروسي التركي، جذور ضاربة في أعماق القرون الماضية، إذ ليس الأمر وليد الحاضر، دائما كان الأمر يحتاج إلى فتيل لإشعاله، أخيرا في ظل تزامُن مثير لرجل ذي سياسات "قيصرية" على رأس السلطة الروسية، ورجل ذي اعتزاز "عثماني" على رأس الدولة التركية، بدأ بوتين وأردوغان، في كتابة فصل جديد في المواجهة بين القياصرة والسلاطين، التي كانت تتوقف قليلا، ثم لا تلبث أن تعود على مر التاريخ.
تبدأ جذور القصة من عام 1453، بعد أن سقطت الإمبراطورية البيزنطية، تحت ضربات مدافع العثمانيين، وقتها أضيف لقب "الفاتح" إلى ألقاب السلطان العثماني محمد الثاني، بعد أن برّ بقسمه، وقوله "عند سور القسطنطينية يكون لي قصر أو يكون لي قبر".. ها هي السلطنة تطل على البوسفور وتشرئب بعنقها نحو الضفة الأوروبية، وما وراءها.
اقرأ أيضا: آيات الرحمن في جهاد الهان
موسكو1547
في موسكو، الجميع يهتف بحياة إيفان الرابع المعروف بـ"الرهيب" والذي أُعلِنَ في السادسة عشرة من عمره كأول قيصر لروسيا بعد ما يقرب من مائة عام من انهيار القيصرية الشرقية في القسطنطينية.
كان للقب دلالات خاصة مع حقيقة اعتناق الروس المسيحية الأرثوذوكسية، كما كان البيزنطيون، وكانت سياسة "الرهيب" تقوم على التوسع وبذل كل شيء لإثبات أن موسكو جديرة بحمل لقب قياصرة بيزنطة، بعد سقوط تلك الأخيرة، وأن هناك من يستطيع أن يوقف توسع آل عثمان، بل وينتزع منهم ما نالوه بالسيف.
اقرأ أيضا: موظفو بغداد يبدأون موسم الهجرة إلى تركيا
بداية الصدام
بدأ الصدام الأول بين الدولتين، في الفترة الممتدة من عام 1568، وحتى عام 1570 في منطقة إستراخان القوقازية التي شنت عليها القوات العثمانية في عهد سليم الثاني، حملة لضمها للسلطنة وإيقاف أطماع القيصر الروسي إيفان الرهيب في الجنوب، إلا أن قوة تحصينات الروس وقسوة الأحوال الجوية، حولت الحملة لكارثة على الجيش العثماني الذي ارتد لقواعده منهزمًا ومخلفًا آلاف الضحايا.
تجدد الصدام في عام 1676، بين الدولتين عندما استغلت روسيا الاضطرابات في أوكرانيا الواقعة تحت الحماية العثمانية واستنجاد حاكمها بروسيا ضد العثمانيين، فأرسلت قواتها لتحارب معه ضد الدولة العثمانية، واستمر القتال دون انتصار أي من الطرفين حتى عام 1681، ما أدى إلى اتفاق الأطراف المتحاربة على بقاء الوضع على ما كان عليه قبل الحرب، وأبرموا معاهدة "رادزين" بهذا الشأن، ولكن بعد ست سنوات انضمت روسيا لتحالف عسكري ضم بولندا، النمسا، فرسان مالطة، والبندقية، وجرت معارك ضارية ضد القوات العثمانية على الجبهات المجرية واليونانية والبلقانية والرومانية، وصارت سجالًا حتى انتهت بسيطرة المتحالفين على كل من كرواتيا وإقليم ترانسلفانيا الروماني.
في عام 1696، استغل القيصر بطرس الأكبر حرب العثمانيين والنمسا وتقدم بقواته محتلًا آزوف على البحر الأسود، توسط البريطانيون والهولنديون بين الدولة العثمانية من جانب وروسيا والنمسا والبندقية وبولندا، (الدول المتحالفة ضد العثمانيين)، من جانب آخر وأُبرِمَت بينهم اتفاقية "كارلوفيتز" التي فازت روسيا بموجبها بملكية مدينة آزوف، بينما فقدت الدولة العثمانية المهزومة بموجبها المجر وترانسلفانيا، لصالح النمسا، جزيرة المورة وإقليم دالماسيا على البحر الأدرياتيكي، لصالح البندقية، إضافة لبعض الأقاليم البلقانية التي مُنِحَت لبولندا، واتفق الجميع أن تستمر هذه الاتفاقية لمدة عشرون عامًا.
لكن في عام 1710، وبسبب بعض النشاطات العسكرية الروسية المريبة للعثمانيين في المناطق الحدودية، اشتبكت قوات الدولتين مجددًا، وانتهى القتال هذه المرة بهزيمة الروس وإبرام معاهدة فلكزن سنة 1711، القاضية بإعادة روسيا مدينة آزوف للعثمانيين والتوقف عن الأنشطة المعادية بالذات التدخل في شؤون شعب القوازق المتاخم لمناطق النفوذ العثمانية، ولكن عدم وفاء روسيا بتعهداتها جدد الحرب التي تدخل الفرنسيون والبريطانيون لإيقافها بالتوسط بين الطرفين لإبرام معاهدة أدرنة سنة 1713، والتي تنازلت روسيا بموجبها عن كل ممتلكاتها على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود، وتنفس العثمانيون الصعداء.
في عام 1722، كاد القتال أن يندلع بين الطرفين الروسي، (كان على رأسه القيصر بطرس الأكبر)، والتركي على الجبهة الفارسية، إذ استغلت الدولتان الاضطرابات الضارية في فارس وسعى كل منهما إلى التوغل فيها، وعلى إثر دخول القوات الروسية إلى بلاد فارس أرسل السلطان أحمد الثالث إنذارًا لروسيا أن اجتياحها فارس سيكون بمثابة إعلان حرب على السلطنة، فاتفق الطرفان في 1724، على اقتسام البلاد الفارسية عبر احتفاظ الدولتين بما احتلته كل منها واكتفاءها به، ولكن وفاة بطرس الأكبر في العام التالي كانت حدثًا من شأنه نقل الصراع الروسي العثماني لمرحلة أخرى أشد ضراوة.
"على الروس أن ينتشروا شمالًا في سواحل بحر البلطيق وجنوبًا في سواحل البحر الأسود".. البند الثامن من وصية القيصر بطرس الأكبر.
اقرأ أيضا: إمبراطورية آل مخلوف المالية..أسرار علاقة خال بشار الأسد بإسرائيل
الحرب في سبيل المياه الدافئة
يعد القيصر الروسي بطرس الأكبر، مؤسس القيصرية الروسية العظمى، وكان بطرس الأكبر، قد أوصى خلفاءه بضرورة الوصول للمياه الدافئة، أي السيطرة على البحر الأسود ومضيقي الدردنيل والبوسفور، للتحكم في التجارة العالمية المارة بهذه المنطقة، والخروج بروسيا من الحصار الطبيعي لها بحكم تجمد بحر البلطيق في فصل الشتاء، الأمر الذي يعطل التجارة الروسية المتجهة جنوبًا.
حرصت القيصرة كاترينا، أرملة بطرس الأكبر، على تنفيذ الوصية، بل وبدا واضحًا امتداد أطماع الدولة الروسية إلى السيطرة على البوسفور والعاصمة العثمانية اسطنبول ذاتها، فبعد 11 عامًا من وفاة بطرس الأكبر، قام الروس بمهاجمة مناطق نفوذ العثمانيين في البحر الأسود وأعادت روسيا احتلال آزوف، واستغل النمساويون الفرصة فغزوا البوسنة وصربيا واحتلوا بلغراد، إلا أن العثمانيين تمكنوا من طرد النمسا التي طلبت الصلح، ووافقت عليه روسيا بل ودخلت فيه كشريك ووسيط، وأبرم الجميع معاهدة بلغراد سنة 1739، والتي احتفظت روسيا بموجبها بميناء آزوف مع التعهد بهدم قلاعه وجعل الأراضي الواقعة بعده بمثابة حاجز حدودي طبيعي مع الدولة العثمانية التي أعاد لها الروس ما احتلوه من باقي المناطق الأخرى، وتعهدت روسيا كذلك بعدم تسيير أسطولها الحربي في البحر الأسود، مع السماح لها بممارسة النشاط التجاري فيه، وبدأت العلاقات الروسية العثمانية تدخل مرحلة من السلمية حتى عام 1768.
في عام 1764، تولت كاترين الثانية عرش روسيا مظهرة حماسًا عاليًا للتوسع، فاستغلت موت ملك بولندا وتمكنت من فرض حاكم موالٍ لها، فاستغاثت المعارضة البولندية بالعثمانيين، وقام الفرنسيون والنمساويون، الذين أخافتهم نشاطات كاترين الثانية التوسعية، بتحريض العثمانيين على محاربة روسيا.
بالفعل دخل العثمانيون الحرب، ولكن كان جيشهم في حالة مريعة من الضعف والفوضى، فانهار أمام ضربات الروس الذين اجتاحوا نهر الدانوب وما وراءه وفرضوا سيطرتهم على رومانيا في عام 1770، وفتحوا على العثمانيين جبهتين جديدتين في السواحل اليونانية والبلقان، بل وحاولوا التحالف مع الأمراء الثائرين ضد الدولة العثمانية في المشرق العربي، مثل علي بك الكبير في مصر وظاهر العمر في فلسطين ومنصور الشهابي في لبنان، ولكن محاولتهم الأخيرة تلك قد فشلت.
دارت معارك بحرية ضارية بين الأسطولين العثماني والروسي على سواحل آسيا الصغرى، ودمر الروس القوة العثمانية وصار الطريق أمامهم مفتوحًا نحو العاصمة إسطنبول لولا ارتكاب الروس خطأ عسكريًا بتحويل الاهتمام لبعض الجزر المجاورة والتي فشلوا في محاصرتها ولكنهم في عام 1771، استطاعوا السيطرة على كل شبه جزيرة القرم وبعض القلاع الأناضولية، بل وكادوا أن يحتلوا ميناء طرابزون التركي.
هنا تدخلت القوى الأوروبية التي بدأت ترى في روسيا غولًا ينبغي إيقافه، فساندت فرنسا العثمانيون وتوسطت النمسا وبروسيا (ألمانيا) لإيقاف الكارثة، وبدأت روسيا في فرض مطالبها، في مفاوضات عام 1772، من منطلق أنها الطرف المنتصر، فطلبت منح شبه جزيرة القرم الاستقلال النهائي، وحق السفن التجارية الروسية في الحركة في كل البحار الواقعة تحت سيطرة العثمانيين، وحق حماية الرعايا الأرثوذوكس في سائر البلاد العثمانية، ورفض العثمانيون تلك المطالب، فتجددت المفاوضات في نفس العام، وكررت روسيا مطالبها مرفقة بإنذار بالحرب، مضيفة لها مطالب أكثر قسوة تقضي بتنازل العثمانيون عن حصونهم في أوكرانيا وتسليمها بعض قلاع البحر الأسود لروسيا.
مرة أخرى فشلت المفاوضات وتجدد القتال الذي مالت كفته هذه المرة لصالح العثمانيين الذين طردوا الروس من البلقان في العام التالي، ولكن الدائرة دارت مرة أخرى على الدولة العثمانية التي اضطرت للموافقة على المطالب الروسية السابقة بل وعلى بنود إضافية تتضمن تعيين سفير روسي في إسطنبول له حق التدخل في الشؤون المرتبطة بالرعايا المسيحيين، وأبرمت بهذا الشأن معاهدة كوتشك قينارجي سنة 1774، والتي كانت بداية لسياسة "الامتيازات الأجنبية" في الدولة العثمانية وممتلكاتها، بعد أن فتحت روسيا الباب لذلك، وبدا من الواضح أن المرحلة القادمة هي مرحلة إسقاط العملاق العثماني ثم تقسيم تركته.
كادت الحرب أن تتجدد بين روسيا والعثمانيين لولا تدخُل فرنسا، بعدما بلغتها معلومة أن الروس يحاولون جر العثمانيين لحرب ضارية، بموجب اتفاق سري بين روسيا والنمسا لمحاربة الدولة العثمانية وتوجيه الضربة الأخيرة لها وتقاسم ممتلكاتها في أوروبا وإقامة الدولة البيزنطية من جديد بعد إسقاط إسطنبول.
أحبط تدخُل الفرنسيون تلك الخطة مؤقتًا لولا ما جرى في عام 1787، إذ أنذرت السلطة العثمانية، روسيا ببعض المطالب المتعلقة بسياساتها في القرم، رفضت روسيا فاعتقل العثمانيون سفير الروس في اسطنبول وزحفوا نحو أوكرانيا ووقعت مواجهات تخللتها مذابح بشعة من جانب الروس بحق مدن عثمانية، ثم توغلت القوات الروسية في ما وراء الدانوب من ممتلكات العثمانيين وأوقعت بقواتهم الهزيمة تلو الأخرى، ومرة ثانية تتدخل الدول الأوروبية لكبح جماح الغول الروسي، وتنجح وساطة إنجليزية بروسية هولندية في عقد صلح "ياش" بين الدولتين.
من هذه النقطة.. انتقل الصراع الروسي العثماني من مرحلة، عملاقان يسعى كلاهما إلى التوسع، إلى مرحلة عملاق عثماني يحتضر، وآخر روسي لا يطيق صبرًا لتقاسم تركته.
لكن كان للدول الأوروبية رأي آخر، إذ لم يكن من مصلحتها توجيه ضربة قاضية للدولة العثمانية، أولًا لأن روسيا كانت في أوج قوتها مقارنةً بباقي دول أوروبا، وثانيًا لأن تلك الدول كانت تعيش حالة من الصدام فيما بينها، بالذات فيما بعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789.
في عام 1801، اكتشف السلطان سليم الثالث أن الروس قد أجروا تفاهمًا سريًا مع الفرنسيين لتقاسم ممتلكات السلطنة، وقبل أن يتخذ ما يلزم من تدابير احترازية فوجئ في العام التالي بفرنسا وبريطانيا وهولندا وإسبانيا تبرم صلح أميان وترتب شؤون أوروبا دون إشراك دولته، الأمر الذي يعني أن المنافسة الآن قد صارت بين الغرب الأوروبي من جانب والروس من جانب آخر للحصول على قطعة أكبر من الكعكة العثمانية، وبالفعل ماطلت بريطانيا في أمر انسحاب جيوشها من مصر، بعد أن دخلتها في إطار تحريرها من الفرنسيين، وقامت روسيا باحتلال جزر اليونان، فقام السلطان سليم الثالث بإعادة التقارب العثماني الفرنسي مما أقلق بريطانيا التي سحبت جيشها من مصر.
كانت السنوات التالية فترة تقارب عثماني روسي مشترك، وإن لم يكف الروس عن دعم الحركات الانفصالية والثورية في البلقان واليونان إلى حد إرسال إنذار للعثمانيين بشأن القضية اليونانية والدانوب وصربيا عام 1825، واضطر العثمانيون للخضوع للإنذار فيما يتعلق بولايات الدانوب وصربيا، لكنهم رفضوه فيما يتعلق باليونان، فقامت قوة بحرية روسية إنجليزية فرنسية مشتركة بضرب الأسطول العثماني في سواحل اليونان ومعه الأسطول المصري، الذي أرسله محمد علي باشا بأمر السلطان، في موقعة نافارين الشهيرة.
بل وتطورت الأحداث بشكل درامي بلغ حد إعلان روسيا الحرب سنة 1828، على الدولة العثمانية، وتقدم قواتها لتجتاح البلقان وما وراءه إلى حد وصولها لمشارف إسطنبول واستعدادها لتوجيه الضربة القاضية إذ كانت العاصمة العثمانية في مرمى بنادق الجنود الروس، وكادوا بالفعل أن يدخلوها لولا أن سارعت القوى الأوروبية الراغبة في تأجيل عملية اقتسام الميراث الثقيل للتدخُل خاصة بعد أن طلب السلطان العثماني ذلك، فتم عقد معاهدة "أدرنة" سنة 1829، والتي حصلت روسيا بموجبها على امتيازات عالية في الأراضي العثمانية، بل وضمت لها، للأبد، المنطقة الآسيوية من البحر الأسود، ليصبح بحيرة روسية.
في عام 1833 كسبت روسيا أرضية جديدة في التدخُل في الشأن العثماني، إذ استغلت حروب محمد علي باشا في الشام والأناضول ضد العثمانيين لتقنع هؤلاء بإبرام اتفاقية دفاع مشترك هي "معاهدة خونكار إسكله سي" والتي تقول بتدخل جيوش أي من الدولتين في أراضي الأخرى لحمايتها حال تعرضها للخطر، مع ملحق سري يعفي العثمانيين من هذا العبء بحق الروس مقابل اكتفاء الدولة العثمانية بإغلاق مضايقها في وجه أية تهديدات للأراضي الروسية. الاتفاق كان يعني ببساطة أن قياصرة روسيا قد صاروا متحكمين في ممرات ومضايق المناطق العثمانية، بل وصارت لهم يد طولى في السياسات الدفاعية للعثمانيين، إضافة لكونهم طرف في رعاية المفاوضات بين الأتراك، ومحمد علي باشا بعد حروب الشام الثانية.
"الدولة العثمانية هي رجل أوروبا المريض".. القيصر نيكولاي الأول في إطار دعوته سنة 1853 لتقاسم الأراضي العثمانية
اقرأ أيضا: الدنمارك.. مستوى السوريات التعليمي يثير دهشة أرباب العمل
المرحلة الأخيرة من الصراع
في عام 1853، استغلت روسيا بعض المشكلات والخلافات المرتبطة بامتيازاتها لرعاية المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وسارعت إلى التوغل في الأراضي العثمانية.
حاولت النمسا التوسط لإيقاف حالة الحرب إلا أنها فشلت، فاندلع القتل بين الروس من جانب والعثمانيون وحلفاءهم الإنجليز والفرنسيين وقوة مصرية من جانب آخر في شبه جزيرة القرم، وانتهت الحرب بهزيمة روسيا ولكن مع فرض الدول الأوروبية ما يشبه الوصاية على الدولة العثمانية بحجة الحفاظ على الاستقرار السياسي في أوروبا.
مرة جديدة تعود روسيا لمحاصرة العثمانيين من الجهة الأوروبية، فعاد دعمها للحركات الثورية والانفصالية في البلقان برعاية ثورات الصرب والهرسك والجبل الأسود في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر وصولًا لاستقلال المناطق "السلافية"(العرق السلافي) بل ودعمها في إعلانها الحرب على العثمانيين، ومرة ثانية اجتاح الروس الأراضي العثمانية وصولًا لمشارف إسطنبول مستغلين للجبهات المفتوحة على العثمانيين في البلقان واليونان، ومن جديد طلب العثمانيون الصلح، وأبرموه بالفعل في معاهدة سان ستيفانو 1878، وقد خسروا البلقان لصالح النفوذ الروسي، بل والتزم العثمانيون بدفع غرامة حربية لروسيا، وزاد الطين بلة ما تقرر في مؤتمر برلين في نفس العام من اقتطاع أجزاء من الجسم العثماني لصالح الدول الأوروبية، بل وتشجيع الدول البلقانية الناشئة على اقتطاع أجزاء، وإن كانت أصغر، من المناطق العثمانية المجاورة لها.
في العقود الثلاث التالية بدأ الرجل العثماني المريض يترنح من الضربات المتمثلة في فقدانه أراضيه في آسيا وأفريقيا لصالح كلا من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ثم إعلان دول البلقان الناشئة الحرب على الدولة العثمانية سنة 1912، واستمرارها في اقتطاع أجزاء من مناطق الجوار العثماني.
ثم جاءت مشاركة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1914، إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد روسيا وإنجلترا وفرنسا كجولة أخيرة تلقت فيها الضربة القاضية لتسقط نهائيًا... وإن تزامن ذلك مع سقوط نظام القياصرة وانتهاء الصراع بشكل مؤقت.
الآن يجدد الأحفاد صراع الأجداد، فقط لم تعد القرم والبلقان هما رقعة الشطرنج بل أصبحت سورية، فبينما يحقق نظام بشار الأسد حلم الروس في وجود منافذ إضافية لهم على "المياه الدافئة" يزعج ذلك تركيا التي يحاصرها النفوذ الروسي من الشمال والجنوب، فضلًا عن أن الوجود الروسي في سورية هو حجر عثرة أمام النفوذ التركي في الشام.
"تتوقف قدرة تركيا على فتح آفاق واسعة لسياسة خارجية على صعيد المنطقة على قدرتها على إعادة ترتيب علاقاتها مع جيرانها الذين يحققون لها التواصل مع المناطق البرية القريبة".. كتاب "العمق الاستراتيجي" للدكتور أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي.
يتلخص الصراع ببساطة في أن القيادة التركية حين أرادت أن تعيد نفوذ الماضي تزامن ذلك مع نفس الرغبة عند القيادة الروسية، إذ عاد العملاقان للتزاحم في مساحة ضيقة، وبينما اختلفت آليات الصراع، فإن إعادة قراءة التاريخ، تقول إن ما يجري الآن ليس بمثابة استحداث لصراع جديد، بل هو في حقيقة الأمر إحياء لعلاقة صدامية قديمة تعطلت لبضعة عقود.
-------
اقرأ أيضا:
مصر.. أكذوبة الشعب المسالم بطبعه