الرشاوى الانتخابية في لبنان... إثبات شراء الأصوات من المستحيلات

29 ابريل 2018
ضبط الإنفاق الانتخابي مسؤولية هيئة الإشراف على الانتخابات(فرانس برس)
+ الخط -
"عاد الزفت إلى الطرقات"، هكذا يعرف اللبنانيون أن موعد الانتخابات قد اقترب، كما يقول البيروتي أبو بلال، بينما يمارس عمله في طلاء إحدى السيارات في ورشته بالعاصمة، مضيفاً "تضج الشوارع بحركة عمال الصيانة الذين يُعيدون تعبيد الطرقات في المدن والبلدات، قبل رفع صور المرشحين للانتخابات النيابية فوقها.

يختصر المشهد الكثير مما يغدقه بعض المرشحون على الناخبين ضمن دائرتهم الانتخابية"، ويصف مسؤولو حملات انتخابية ذلك الإغداق المفاجئ بـ"التقديمات" في ظل رفض قاطع لوصفها بالرشاوى، وتطول قائمة هذه التقديمات، مع إجماع قانونيين ومتخصصين في رقابة الانتخابات، التقاهم معد التحقيق، على صعوبة تحويل الأحاديث المتواترة عن عرض مبالغ مالية ووعود بالتوظيف للناخبين وغيرها من الرشاوى الانتخابية إلى دعاوى قانونية.

ضعف آلية الرقابة

حدد قانون الانتخابات الجديد في المادة 60 منه مصادر تمويل حملات المرشحين بـ"استعمال ماله الخاص في عملية الإنفاق الانتخابي، قبول مساهمات مالية من اللبنانيين حصراً على أن لا تتخطى المساهمات السقف الانتخابي المحدد قانوناً وأن لا تتخطى نسبة المساهمة للواحد أكثر من 50 في المئة من السقف الانتخابي".

ومع إقرار قانون الانتخابات الجديد في لبنان، فرضت البنود الجديدة آليات إضافية للرقابة على الإنفاق الانتخابي الفردي للمرشحين والجماعي للوائح الانتخابية. وهو أمر "يمكن تجاوزه"، كما أكّد عدد من مسؤولي الحملات الانتخابية لأكثر من مُرشّح في عدد من الدوائر الانتخابية التي نص القانون الجديد عليها، ومنها دائرتا بيروت الأولى والثانية، ودائرة بعلبك -الهرمل، شرقي لبنان.

ويمنح هذا القانون سقفين: ثابت ومُتحرك، للإنفاق الانتخابي لكل مُرشح، وتبلغ قيمة الإنفاق الثابت 150 مليون ليرة لكل مُرشح، أي 100 ألف دولار أميركي، والمُتحرك الذي يتغير مع تغير عدد الناخبين في كل دائرة بمقدار 5 آلاف ليرة (3.5 دولارات أميركية) عن كل ناخب ضمن الدائرة الانتخابية للمُرشّح.

ونص القانون على تأسيس "الهيئة الدائمة للإشراف على الانتخابات". ورغم الملاحظات الجدية التي طرحها حقوقيون بشأن مدى استقلالية هذه الهيئة عن وزارة الداخلية التي كانت تتولى مراقبة العملية الانتخابية والإشراف عليها بشكل مُنفرد سابقاً، أناط القانون بالهيئة مراقبة الإنفاق الانتخابي، بينما تم ضبط عملية الإنفاق من خلال إلزام المرشحين بفتح حساب مالي ورفع السرية المصرفية عنه وحصر الإنفاق الانتخابي فيه، كما نص القانون على تسمية اللوائح لأشخاص مُحددين مُخولين بتحريك الأموال من الحساب وإليه، وبتقديم بيانات مالية دورية لهذه الحركة، إلا أن رئيس الهيئة القاضي نديم عبد الملك، يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "تحقيق رقابة كاملة على عملية الإنفاق الانتخابي يستوجب تعديل القانون الحالي ومنح الهيئة المزيد من السلطة الرقابية على كافة حسابات المرشحين بعد رفع السرية المصرفية عنها".

ولا ينفي عبد الملك إمكانية إنفاق المرشحين على حملاتهم الانتخابية من حسابات أُخرى خاضعة لقانون السرية المصرفية، "وهو أمر لا تملك الهيئة حاليا أي صلاحية لمواجهته"، الأمر الذي يؤكد أحد المشرفين على الحملات الانتخابية في دائرة بيروت الثانية لـ"العربي الجديد" اللجوء إليه "من قبل اللوائح المنافسة"، على حد قوله، خصوصاً لتأمين السيولة المالية الكافية لتلبية "الخدمات" التي تتزايد مع اقتراب يوم الانتخابات. ويفضل المشرف عدم ذكر اسمه خوفاً من تعرض أنصار اللوائح الأخرى له، وهو أمر تكرر حصوله في أكثر من منطقة لبنانية بعد أن تم تسجيل اعتدءات جسدية ولفظية فيها على خلفية سياسية.

ويشير القاضي عبد الملك إلى أن "حالة واحدة فقط شهدت تقديم صاحب صفة، وهو النائب الحالي والمُرشح سيرج طورسركيسيان، لشكوى رشوة تحمل الصفات القانونية أمام الهيئة، وقد تمت إحالتها إلى القضاء المُختّص"، فيما اكتفى الوزير السابق والنائب الحالي بطرس حرب بالإعلان عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك عن "شراء بعض المرشحين لأقلام فيها كاميرات تصوير بهدف التأكد من تصويت الناخبين لهم، قبل دفع رشاوى مالية لهم"، ويضيف عبد الملك أنه "لا يمكن الأخذ بكل ما يدور في الشوارع من أحاديث، وإن تواترت، لأن إثبات الرشوة يعني تثبيت الجرم الواقع من قبل الراشي ومن قبل المُرتشي، وهو أمر مستحيل في ظل تواطؤ الطرفين معاً". ويجدد عبد الملك مناشدة كل من يملك صفة الادعاء أن يبادر لتقديم الشكوى "التي ستُحال حكماً إلى النيابة العامة ليأخذ القضاء مجراه".


تفاوت الرشى

تجربة النائب طورسركيسيان الذي بادر لتقديم الشكوى الوحيدة في مجال الإنفاق الانتخابي لم تكن إيجابية، كما يقول النائب لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن "نسبة الرشوة سترتفع في بعض الدوائر بسبب تفاوت حجمها وعدد الأصوات فيها، وهو ما يستوجب اهتماماً إضافياً من الهيئة لضمان بقاء الإنفاق ضمن المسموح بحسب القانون".

وبحسب طورسركيسيان المُرشّح عن دائرة بيروت الأولى، فإن "أكثر من مستثمر ورجل أعمال مرشحين عرضوا على المخاتير وعلى المفاتيح الانتخابية والناخبين رشاوى مالية طائلة". وقد أتى جواب الهيئة على شكوى سركيسيان على شكل بيان تم الإعلان فيه عن تحويل الشكوى إلى النيابة العامة، وبحسب ما علم "العربي الجديد" من مصدر قضائي غير مخول بالتصريح دون إذن مسبق، فإن النيابة العامة ستلجأ لحفظ الشكوى "لأن الملف شبه فارغ بالمعنى القانوني".

ويشكو طورسركيسيان من "افتقار الهيئة لجهاز رقابي فاعل وقادر على متابعة الشكاوى على الأرض". وقد لعب العجز المادي دوره في مسار الهيئة، وهو ما ترجمته استقالة ممثلة المجتمع المدني، سيلفانا اللقيس، منها بسبب "عرقلة عملنا وتقليص صلاحياتنا". ويشير القاضي عبد الملك إلى أن "الهيئة التي انطلقت قبل 6 أشهر لم تستلم ميزانيتها إلا في منتصف إبريل/ نيسان، ولا يزال النقص سيد الموقف بالنسبة للكادر البشري المطلوب لتسيير أعمالنا".


المشكلة في أصل قانون الانتخابات

مع اقتراب موعد الانتخابات يزداد التركيز الإعلامي والرقابي على موضوع الإنفاق الانتخابي، ويزداد تركيز الجمعيات المعنية بالشفافية وبديمقراطية الانتخابات على أن حل مشكلة عدم التوازن في الإنفاق الانتخابي وتثبيت وقائع الرشوة الانتخابية مستحيل دون تعديل قانون الانتخابات الحالي، وكما يشير المدير التنفيذي لـ"الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية - لا فساد"، داني حداد، في حديث لـ"العربي الجديد"، فإن "الغموض صفة ملازمة للقانون الانتخابي الجديد في لبنان"، وهو ما ينعكس على مُختلف أوجه العملية الانتخابية ومنها الإنفاق.


وقد أطلقت "لا فساد" تقريرين عن سير العملية الانتخابية بعد رصد الأخبار الانتخابية في وسائل الإعلام المحلية، ومن خلال مراقبة للإعلانات والهبات والمشاريع والأنشطة الانتخابية في 3 دوائر انتخابية من أصل 15، هي: دائرة الجنوب الأولى: صيدا جزين. دائرة الشمال الثانية: طرابلس - المنية - الضنية، دائرة البقاع الثانية: زحلة. وسجلت الجمعية فروقات كبيرة في سقف الإنفاق الانتخابي القانوني والذي يحدده عدد الناخبين في كل دائرة بعد احتساب سقف الإنفاق الانتخابي لكل لائحة في كل دائرة، بعد إقفال باب تسجيل اللوائح في 26 مارس/ آذار الفائت بإجمالي 77 لائحة ضمت 597 مرشحاً، ليتبين أن المعدل العام للإنفاق بالنسبة للمرشح بلغ 1.706.554.782 ل.ل. أو ما يعادل 1.125.696 دولاراً، فيما بلغ المعدل العام للإنفاق بالنسبة للائحة 13.231.340.325 ل.ل. أو ما يعادل 8.727.797 دولاراً.

ويشير المدير التنفيذي لـ"الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات" (لادي)، عمر كبول، لـ"العربي الجديد"، إلى أن "عدم التساوي في حجم الدوائر الانتخابية يفرض شروطاً غير عادلة للتنافس، في ظل فرق سقف الإنفاق المُتحرك الكبير بين دائرة وأخرى".


وبحسب "لا فساد"، فقد سجلت الجمعية مراوحة سقف الإنفاق بين 600 ألف دولار في دائرة الجنوب الأولى (صيدا، جزين)، وبين مليون وسبعمئة ألف دولار في دائرة الجنوب الثالثة (النبطية، مرجعيون، حاصبيا)، وهو ما يكشف حجم التفاوت في سقف الإنفاق بين الدوائر.

وعلى صعيد التفاوت بين اللوائح، رصدت "لا فساد" تراوح سقف الإنفاق للائحة غير مكتملة (يسمح قانون الانتخابات بتشكيل لوائح لا يغطي مرشحوها كل المقاعد الانتخابية المتوفرة في الدائرة، على أن لا تقل نسبة المرشحين عن 40 في المئة من عدد المقاعد المتوافرة) في دائرة الجنوب الأولى بين مليون و800 ألف دولار كحد أدنى، وحوالي 19 مليون دولار للائحة مكتملة في دائرة الجنوب الثالثة كحد أقصى.

ويصل المبلغ الإجمالي للإنفاق الانتخابي المتوقع إلى حوالي 672 مليون دولار، بحيث يبلغ ضعفي موازنة وزارة الأشغال العامة والنقل، ونصف موازنة وزارة التربية، وأربعة أضعاف موازنة وزارة الشؤون الاجتماعية، بحسب أرقام موازنة عام 2017.

وأمام حجم الإنفاق الكبير، رصدت "لا فساد" مجموعة "خيارات يلجأ إليها بعض المرشحين للتأثير على إرادة الناخب، مثل حق دفع مصاريف انتقال الناخبين من الخارج التي تعتبرها المادة 58 من النفقات الانتخابية المشروعة بدل أن تعتبر من الأعمال المحظورة". كما "يسمح القانون للوزراء بالترشح إلى النيابة، علما أنه يشترط على موظفي القطاع العام الذين يشغلون مناصب أقل سلطة ونفوذا الاستقالة من مناصبهم قبل الترشح". وتضم الحكومة الحالية 16 وزيرا مرشحا للانتخابات بمن فيهم رئيس الحكومة ووزير الداخلية والبلديات ووزير الخارجية والمغتربين المعنيين مباشرة بإدارة العملية الانتخابية "مع ما يستتبع ذلك من صعوبة في التفرقة القانونية والعملية بين نشاطهم الوزاري ونشاطهم الانتخابي، وما يثيره من تساؤلات حول إمكانية استغلال المناصب الرسمية والصلاحيات الوزارية للتأثير على إرادة الناخبين"، بحسب حداد، والذي أضاف "اللجوء إلى المال الانتخابي يتعزز بسبب "السماح للمرشحين أو المؤسسات التي يملكها أو يديرها مرشحون أو أحزاب بتقديم مدفوعات أو مساعدات، شرط أن يكونوا قد درجوا على تقديمها بالحجم نفسه والكمية نفسها بصورة اعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات، وفي هذه الحالة لا يعتبر القانون هذه المدفوعات والمساعدات المقدمة أثناء الحملة الانتخابية خاضعة للسقف الانتخابي".

كما يشير عمر كبول المدير التنفيذي لـ"الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات" إلى أن "عدم التوازن في الإنفاق الانتخابي يطال التغطية الإعلامية المدفوعة التي يتمكن فقط المرشحون الأثرياء من سداد قيمتها، مقابل حرمان المرشحين الأقل ثراء من إمكانية مخاطبة الناخبين عبر وسائل الإعلام، وهو أحد انعكاسات عدم المساواة في حجم الإنفاق الانتخابي بين المرشحين".
دلالات