إضافة إلى ما سبق، فإن وجود الشركة التي تأسست لاستخراج الكبريت من حقول المشراق الثلاثة، جنوبي مدينة الموصل، التي احتلها تنظيم داعش في يونيو/ حزيران عام 2014، أدى إلى مزيد من التخريب لمؤسساتها التي سبق واحترقت في 2003 (عام الغزو الأميركي للعراق)، ومرة ثانية تعرضت لحريق في نهاية عام 2016، ووقع الحريق الثالث في يونيو عام 2019، بعدما امتدت إليها نيران اشتعلت في حقول الشعير والحنطة المجاورة، بحسب إفادة المدير العام للشركة سعد أمين فيصل، الذي يعيد سبب تكرار الحرائق إلى إهمال وتجاهل وزارة الصناعة والمعادن لمطالب الإدارة بتخصيص موازنة للتدابير الاحترازية، وتقصيرها في توفير متطلبات عملية التخلص من أكداس المخلفات، إذ تنتج عن عملية الاستخراج ما بين 20% وحتى 25% من الناتج الكلي كمخلفات، ويتم استخدام جزء منها في إنتاج مادة الفوم المانعة للرطوبة، وطمر ما يتبقى في باطن الأرض، بحسب دراسة "تأثير فضلات الكبريت والإلكيل بنزين سلفونيت على خصائص الإسفلت"، التي أجريت في جامعة الموصل ونشرت في يونيو عام 2011.
ويمتلك العراق أكبر احتياطي من الكبريت في العالم، وتعدّ الشركة العامة لكبريت المشراق الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط في إنتاج الكبريت الرسوبي من باطن الأرض، وتضم أعلى احتياطي عالمي يقدر بـ600 مليون طن، وفقاً للبيانات المنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة الصناعة والمعادن.
خسائر هائلة متكررة
بسبب انفلات الوضع الأمني وغياب الدولة والقانون، في عام 2003، أتى حريق هائل على مليون ومئتين وخمسين ألف طن من الكبريت المنقى (خال من الشوائب الهيدروكربونية)، ومليون وثمانمئة ألف طن من الفوم (بوليمرات الكبريت)، و90 ألف طن من الكبريت الخام (في حالته الطبيعية)، وفقاً لإفادة سعد فيصل، الذي أوضح لـ"العربي الجديد"، أن الشركة في ذلك الوقت فقدت السيطرة على الغرباء ممن دخلوا إليها وقاموا بعمليات نهب وسرقة وأشعلوا حريقاً امتد لكافة أركانها واستمر 40 يوماً حينذاك، مخلفاً أضراراً بيئية هائلة، مشيراً إلى أن هذه الأحداث تكررت بعد احتلال داعش للموصل وسيطرته على الشركة، إذ تعرضت لحريق آخر في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016، بالإضافة إلى ما خلفته العمليات العسكرية للقضاء على التنظيم والتي أدت إلى إحداث أضرار بنسبة 95% في الشركة.
وفي مارس/ آذار 2017، عقب تحرير المدينة من سيطرة داعش، عمدت الشركة إلى إعادة تأهيل المعامل والبنية التحتية واتخاذ تدابير لمنع وصول الحرائق إلى داخلها وتطويقها، وخصصت 250 مليون دينار (210 آلاف دولار أميركي)، لزيادة عدد أنابيب ملء سيارات الإطفاء من 3 إلى 10 أنابيب، وزيادة عدد المضخات وكذلك استئجار قاشطات (آلية تستخدم في قشط ونقل وتوزيع التربة لبناء سواتر تمنع تمدد الحرائق)، كما تمّ عزل ساحات تخزين الكبريت عن محيط الشركة بالكامل بجهود ذاتية، وتم تهيئة سيارتي إطفاء، بحسب فيصل، الذي يؤكد أن الحاجة لأكثر من ذلك، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إن القائمين على الشركة استمروا بمخاطبة وزارة الصناعة والمعادن، ووزارتي التخطيط والمالية، لزيادة مخصصات الشركة وشراء المعدات الثقيلة للعمل على إنشاء سواتر ترابية وحفر الآبار، لكن بلا استجابة، واستمر الإهمال الحكومي للشركة حتى طاولها حريق نشب بالمنطقة المحيطة بها، واستمر من السادس والعشرين وحتى الثامن والعشرين من يونيو 2019، وفقاً لقوله.
لكن مدير قسم مراقبة الكيماويات وتقييم المواقع الملوثة بوزارة البيئة العراقية لؤي صادق المختار، ينتقد طريقة تخزين الكبريت المتبعة في الشركة، واصفاً اياها بـ"البدائية"، والتي لا تراعي شروط ومواصفات الأمان المطلوبة، إذ إن تكدس الكبريت فوق الأرض بحالته الطبيعية خطر، لأن احتراقه يكون شديداً ونتائجه سيئة للغاية، وإذا انجرف للمياه سيؤدي إلى تلويثها، بينما يرد فيصل بأن الشركة عزلت ساحات التخزين، "ولولا قيامها بذلك لامتدّ الحريق إليها، غير أنه طاول فقط كميات من الكبريت والفوم التي تسقط أثناء نقلها إلى المعامل، بالإضافة إلى آبار استخراج الكبريت المفتوحة، الممتدة على مساحة الشركة البالغة 18 كيلومتراً مربعاً ويصعب تغطيتها أو عزلها"، وفقاً لقوله.
كارثة صحية
تثبت دراسة علمية صادرة في سبتمبر/ أيلول عام 2018 عن جامعة كركوك، حول "تقييم التلوث البيئي لتربة ومياه الشركة العامة لكبريت المشراق قبل وبعد توقف الإنتاج عام 2003"، أن عملية الاستخراج من حقل المشراق باستخدام طريقة الصهر تحت السطحي، عبر حقن المياه التكنولوجية (الصناعية) الحارة (140 درجة مئوية) في باطن الحقل، يجعلها تتسرب من خلال الصخور عن طريق الشقوق إلى مياه نهر دجلة الذي يعدّ المتضرر الأول من هذه الملوثات المكونة من مياه حارة وسائل كبريتي.
كما تبين الدراسة زيادة أيون الكبريت عن الحدود المسموح بها نتيجة تأكسد خامات الكبريت وذوبان صخور الجبس في آبار المياه الجوفية الضحلة في محيط الشركة، لذلك تميزت بعسرة عالية بسبب التركيز العالي لأيونات الكالسيوم والمغنيسيوم الموجودة فيها على شكل كبريتات وبيكربونات وكلوريدات، إذ وصلت 1000 جزء بالمليون، أما المياه السطحية فهي أقل من 150 جزء بالمليون وتعدّ عسرة وسطية.
ولا يتوقف التلوث عند هذا الحد، إذ كاد الستيني المصاب بالربو منصور يوسف، أن يفقد حياته جراء حريق الكبريت الأخير في يونيو المنصرم، ما أجبره وعائلته على النزوح من ناحية القيارة، جنوبي الموصل، إلى حين تم إخماد الحريق، إذ عانى من الاختناق ثم فقد الوعي تماماً بسبب استنشاقه الغازات السامة الناتجة عن الاحتراق، كما يروي لـ"العربي الجديد".
وتتسبب أنشطة الشركة أيضاً في زيادة تركيز بعض الأملاح والغازات، إذ تثبت الدراسة السابقة أن المعامل وساحات التحميل وما ينتج عنها من غبار كبريتي يؤدي لتساقط الأمطار الحمضية (تتكون بسبب مركبات النيتروجين والكبريت ولها آثار مدمرة على النباتات والكائنات البحرية)، بينما يرفع احتراق الكبريت نسب الملوثات المؤلفة من غاز كبريتيد الهيدروجين ذي الرائحة النفاذة، وغاز ثاني أكسيد الكبريت.
ويكشف الدكتور سالم أحمد، مدير المركز الصحي في قرية هرارة القريبة من شركة المشراق، أن احتراق الكبريت المتكرر ساهم في ازدياد الأمراض التنفسية لدى سكان المدينة، وضاعف من معاناة المصابين بأمراض تنفسية مزمنة.
وأثناء احتراق آبار الكبريت في يونيو المنصرم، توفي شخصان ووصل إلى المركز 18 شخصاً مصابين بالاختناق، مشيراً إلى أن احتراق الكبريت عام 2016 أيضاً أحدث تلوثاً بيئياً خلف أضراراً صحية كبيرة ونفقت على أثرها آلاف المواشي المملوكة للأهالي، لكن المركز لم يتمكن من توثيق حالات الوفاة والإصابات بسبب تهجير السكان إلى مركز مدينة الموصل على يد داعش، وفي هذا السياق سجل مشفى أطباء بلا حدود (تابع لمنظمة أطباء بلا حدود) في ناحية القيارة، 30 حالة اختناق، وفقاً لمسؤول تسجيل الحوادث في المشفى إياد المعماري.
وينتج عن احتراق الكبريت مركب ثاني أكسيد الكبريت الغازي (سام وعديم اللون ذو رائحة قوية)، بحسب ما أكده الخبير في الصحة البيئية والعقاقير الطبية، البروفيسور محمد العبيدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، موضحاً أن المركب يتحول في الجو إلى جزيئات كبريتية يمكن أن تنشر التلوث على مئات الأميال، ويتسبب التعرض لمستويات عالية منه (100 جزء في المليون) في إحداث ضرر بالرئتين وتقليل قدرتهما على العمل، لينتج الصفير وضيق التنفس أثناء ممارسة أي نشاط بدني، أما التعرض القصير لمستويات عالية منه فيجعل من الصعب على المصابين بالأمراض التنفسية كالربو والتهاب الشعب الهوائية المزمن وانتفاخ الرئة، التنفس في الهواء الطلق، إذ تؤدي عملية التنفس إلى وصول ثاني أكسيد الكبريت إلى الجهاز التنفسي السفلي، ما يزيد من خطره، وخاصة على كبار السن، وكذلك الأطفال، لأن رئاتهم لا تزال في مرحلة التطور، فيصبحون أكثر عرضة للإصابة بالربو. ويزداد التأثير على من يمارسون الرياضة أو يعملون في الهواء الطلق من الأشخاص الأقل نشاطاً، كما يقول العبيدي.
من المسؤول؟
عقب الحريق الأخير، عرضت الشركة مخلفات الكبريت للبيع بطريقة مباشرة، لكن لم يتقدم أي مشتر، ما استدعى التخلص منها بطمرها، بحسب مدير الشركة، واعتبرت الرئاسة العامة لمجلس الوزراء أن عمليات الطمر من اختصاص وزارة البيئة، وتم تكليفها بالمهمة في يونيو الماضي، كما يوضح فيصل، قائلاً إن ذلك لم يتم حتى الآن، بسبب النفقات التي تتطلبها عملية طمر 800 ألف طن من المواد المكدسة داخل الشركة.
وهنا يرد المختار بأن التخلص من المخلفات مسؤولية الجهة المستفيدة التي تستثمر في الموارد الطبيعية وتحقق أرباحاً وعائدات، وليس من مسؤولية الوزارة أن تخصص لها الأموال، قائلاً إنه "اتضح للوزارة من خلال الاجتماعات أن الشركة ووزارة الصناعة والمعادن تعانيان من مشاكل وقلة تقدير للمخاطر المترتبة، إذ استمرا لسنوات في مناقشة تسعيرة المخلفات وكيفية بيعها"، لكن مدير الشركة يقول إن هذه المواد مقيدة لدى ديوان الرقابة المالية، وفي حال عدم حصول الشركة على موافقة من رئاسة الوزراء لطمرها فإنها ستحاسب على ذلك.
وبينما يلقي كل مسؤول الكرة في ملعب الآخر، يظل خطر اشتعال مخلفات الكبريت قائما، فيما ينتظر الأهالي، وخاصة مرضى الجهاز التنفسي، حلاً قد لا يأتي، كما يعبر عن ذلك الأربعيني علي أحمد، الذي يأمل في أن تُزود الشركة بكل التدابير اللازمة لمنع تعرضها للحريق من جديد، إذ باتوا يعيشون في حالة من التأهب والاستعداد للنزوح في حال اندلع حريق، وخاصة أنه يصعب السيطرة عليه ويغيم على السماء لون أصفر مخيف يظل لأسابيع وتنتشر رائحة كريهة في الهواء، على حدّ وصفه.