الفلوجة.. بيوت تحنُ لمهجريها

25 مايو 2014
آثار دمار منازل أهالي الفلوجة (صدام حسين/فرانس برس/Getty)
+ الخط -


أغلق أبو عدنان، باب بيته وذهب الى البيت المقابل، بيت جاره، فتحه، اخذ خرطوم المياه، ليدور على حديقة المنزل، يسقي زرعها، وبعد ان أكمل المهمة، أغلق الباب خلفه، ثم نادي على ابنه، محمد "خلصت؟".

كان محمد يقوم بنفس المهمة في بيتين أخرين، من بيوت الحي العسكري في الفلوجة، ممن اضطرتهم المواجهات المسلحة وقصف الجيش الحكومي الى هجرتها، والنزوح صوب مناطق اكثر امنا.

بصوت مخنوق يقول أبو محمد، إبراهيم طلال: "اغلب سكان الحي غادروا، بعضهم رحل صوب هيت غرب الانبار واخرون الى أربيل في الشمال، كل واحد يغادر المدينة يسلمني مفتاح البيت، يطلب مني ان اروي حديقة المنزل لحين عودتهم".

يتنهد إبراهيم، يرمي ببصره الى نهاية الشارع، ويقول "كنا نجلس مساء كل يوم هناك، في الركن، بعد صلاة العشاء، اليوم كلهم غادروا، لم يبق سوى انا وبيت أبو عمر، تقاسمنا مهمة ري حدائق البيوت الفارغة لحين عودتهم" يسكت قليلا ثم يقول " ربما يعودون ويتولون مهمة ري حدائقنا، ربما لن نبقى على قيد الحياة".

صباح كرحوت، رئيس مجلس محافظة الأنبار، قال إن عدد نازحي مدينتي الفلوجة والرمادي بلغ منذ بداية الازمة، أكثر من مليون نازح.

وأضاف في تصريحات خاصة سابقة لــ"العربي الجديد" الأيام الماضية شهدت نزوحا كبيرا لأكثر من 2500 عائلة.

أغلب المناطق التي توجه إليها نازحو الفلوجة والرمادي، كما قال كرحوت، هي المناطق الغربية من الأنبار، وتحديدا قضاء هيت وحديثة وعنة وراوة.

ويؤكد مراقبون أن الفلوجة تعيش أزمة حقيقية منذ أن بدأ هجوم القوات العراقية على المدينة مطلع العام الجاري لإزالة خيام الاعتصام في كل من الفلوجة والرمادي عاصمة محافظة الأنبار، وهي الخطوة التي جاءت بعد عام من الاعتصامات التي رفضتها الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي، رغم تأكيدات العديد من مسؤولي الحكومة وعلى رأسهم نوري المالكي بأن تلك المطالب، أو أغلبها ، كانت شرعية.

ما بين الحي العسكري، وبقية أحياء المدينة، قصة تتشابه فصولها، فهناك بيوت ما زالت تحن لسكانها، حيث أغلب مناطق الفلوجة باتت خالية من السكان، وأقفرت الشوارع، فلا حس يُسمع هنا، ولا صوت يعلو فوق صوت قنابل قصف المدينة.

إذا سرت في شوارع المدينة وأحيائها، فمن النادر أن تسمع صوت امرأة او طفل، فأغلب سكان المدينة اختاروا الرحيل، مجبرين، في حين ما زالت بعض البيوت أبوابها مشرعة، كبيت أبو دحام، جمعة العاني، الذي صادفناه وهو يجلس على مقربة من بيته، صاحب الباب المفتوح.

يقول أبو دحام" خرجت انا وعائلتي بعد أيام من بدء العمليات العسكرية على الفلوجة، كان ذلك قبل أشهر، لا أعرف منذ متى، ذهبت إلى أربيل، بقيت هناك وعائلتي نحو شهرين، نفد مالي، لم يكن بالإمكان البقاء هناك، قررت العودة لى الفلوجة مع عائلتي".

يكمل العاني سرد قصة النزوح المر" بعد عودتي الى الفلوجة، بدأت القوات الحكومية قبل نحو شهر سلسلة هجمات متواصلة على المدينة، كان بيتنا يهتز على وقع القصف، الأطفال أصيبوا بنوبات من الهلع والخوف، لم يكن أمامي من بد سوى معبر المفتول، حيث قمت بإخراجهم مرة ثانية إلى بيت أهل الزوجة، بينما أنا عدت إلى المدينة لأن بيت أهل زوجتي لا يسعنا جميعا".

أبو دحام يصر أن يترك باب بيته مفتوحا" لعل أحدهم يحتاج إلى شيء، "صحيح لا أملك شيئا يمكن أن يعين المحتاجين، غير أن المنزل فيه حديقة جميلة ودائما أضع ماء باردا لعل طارقاً ما يروي عطشه".

العديد من العائلات الفلوجية قررت العودة بعد أن طالت الأزمة، وخصوصاً أن أغلب تلك العائلات لم تكن قادرة على تحمل تكلفة المعيشة خارج المدينة، غير أنها عودة لم تستمر طويلا، فالعمليات العسكرية التي طالت المدينة خلال الشهر الماضي، دفعت بالعائدين، رغم قلتهم، إلى معاودة النزوح مرة أخرى، من خلال معبر" المفتول" أو "رفح الفلوجة"، كما يطلق أهالي المدينة عليه.

المفتول ... معبر رفح الفلوجة

يطلقون عليه معبر رفح، كونه يماثل تماما ذاك المعبر الغزي الوحيد الذي يطل منه نحو مليون ونصف المليون انسان على العالم.

يقع منفذ المفتول في ناحية الصقلاوية الى الشمال الغربي من مدينة الفلوجة، وهو عبارة عن قنطرة صغيرة على احد الأنهار الصغيرة التي تتفرع من نهر الفرات، القنطرة الصغيرة لا يمكن الا لشخص واحد المشي عليها كونها صغيرة جدا ولا تتسع لأكثر من شخص واحد.

أهالي الفلوجة صاروا يضطرون الى اللجوء الى المنفذ للخروج من المدينة بعد ان حاصر الجيش العراقي كل مداخل ومخارج المدينة ، ومنع الدخول والخروج اليها.

يقول الشيخ خير الدين الدليمي، أحد سكان المدينة، ممن لا يزال رافضا للخروج منها، ان المدينة تعاني وضعا صعبا بسبب هجمات الجيش، وأيضا اغلاق كافة المنافذ.

وأضاف لــ" العربي الجديد": " ليس امام الناس سوى معبر المفتول، انه منفذ الفلوجة الوحيد، كل المنافذ حاصرها الجيش، الذي يسعى لاقتحام المدينة، حتى هذا المعبر تعرض للقصف قبل نحو شهر في محاولة من الجيش لمحاصرة أهالي الفلوجة" .

وعن المواد الغذائية التي تدخل الى المدينة قال الدليمي" انها قليلة، ليس لها من طريق سوى معبر المفتول، تقف السيارة على الجانب الاخر، وتبدأ بتفريغ بعض ما تحمل ثم يتم حملها باليد وادخالها الى المدينة" .

وشرح الدليمي معاناة الأهالي قائلا: "المعبر" صغير جدا، وهو للمشي فقط، هناك كبار سن وأطفال ومرضى، كيف لهم ان يخرجوا او يدخلوا الى المدينة؟ ما يمارسه الجيش حرب إبادة ضد أهالي المدينة".

وعلى ما يبدو وبحسب ما يتوقعه نازحو الفلوجة فان مهمة أبو محمد، إبراهيم طلال في ري حدائق جيرانه لن تنتهي قريبا، فالأجواء التي تحيط بالمدينة، ملبدة بالغيوم، ولا يبدو ان حلا قريبا لازمة الانبار عموما ومدينة الفلوجة خصوصاً في أفق الأيام المقبلة.