اختفاء الشعب خلف "القضية"

26 ابريل 2015
منى حاطوم، "معلّق"، 2010
+ الخط -

تنقل الباحثة روز ماري صايغ عن مناضلٍ في أحد المخيماتِ الفلسطينية قوله لها: "إن تاريخنا الحقيقي لم يُكتب بعد". جاء هذا خلال رحلة بحث لها بين الرفوف المزدحمة بالدراسات والمحاضرات عن شعب اختفى خلف "القضية" على حد تعبيرها. والشعب المقصود هو الشعب الفلسطيني الذي لاحظتْ أن التقديمَ الرسمي "لقضيته"، عربياً وفلسطينياً، يعاني من مشكلة أعمق من مجرد الضعف التقاني الذي يسهل التغلب عليه، مشكلة تتمثل في نقص بالمضمون الإنساني والاجتماعي، وفي ابتعاد عن الجماهير صاحبة المعاناة الأساسية.

في هاتين الإشارتين؛ التاريخ الذي لم يُكتب، ونقص المضمون الإنساني والاجتماعي، يكمن المأزق الجوهري للحركة الوطنية الفلسطينية، وبهما يمكن تفسير المآلات التي وصلت إليها في العقدين الأخيرين. لأن أية حركة تحرر وطني تفتقر إلى جذور قوية تمتد إلى واقع الناس، ستتعرض إلى مخاطر السقوط في مستنقع التلاعب بها وعرضها في المزادات العلنية والسرية، لتنحط في النهاية إلى المستوى الذي نشهده؛ أي إلى التخلي عن هدف تحرير وطن، والتلمظ بأي فتات يقذفه لها المستعمر المتخم بما ابتلع من أرض وما دمر من بيوت وقرى.

صحيح أن أسباب المأزق يمكن أن تكون متعددة بين داخلية وخارجية، إلا أن الداخل بالنسبة للقضية الفلسطينية كان وظل عنصراً حاسماً في تقرير المآل ورسم الآفاق. فهذا الذي يؤكد "أن تاريخه الحقيقي لم يكتب" يعني تحديداً أنه لم "يمثل" نفسه على مسرح قضيته، أو لم يسمح له أن يمثل نفسه، لا بخبراته ولا بذاكرته ولا بتعريف العالم بتفاصيل واقعه.

ومن تابع ارتسام صورة الفلسطيني اللاجئ، أي لب القضية، في الخمسينيات، سيصاب بالدهشة حين يكتشف أن ملامح هذه الصورة بدأت بالغياب والتلاشي في الستينيات، أي في الوقت الذي بدأ يبرز فيه "زعماء" و"قادة" و"حركات" و"جبهات" فلسطينية، حتى أن الفلسطيني نفسه لم يعد يتعرف على الفلسطيني في زحامٍ طائش. وهذا هو تحديداً معنى القول أن الشعب اختفى خلف "القضية"، أي دُفع خارج تاريخه وترابه وملحه ومائه وأسمائه، وحلت محله أشباه بلا أصول تمثله وتنطق باسمه.

المأزق الحقيقي إذاً داخلي، يتعلق بتغييب شعب تمهيداً لتغييب قضيته ذاتها على يد حركات زعمت ذات يوم أنها حركات تحرر "تنطق" باسمه، فبدأت تختلق سرديات لا تطابق واقع مستعمرة تقام على أرض وطن تمحوه، وتمحو أهله، مثل سردية "كفاح ضد تمييز عنصري" (استيراد نموذج جنوب أفريقيا)، أو "تصالح شعبين" (استيراد نموذج راوندا)، أو "الكفاح اللاعنفي" (استيراد تجربة الهند الغاندية).. وهكذا.

هذا النسيان العميق، أو التناسي والتجاهل، لضرورة استرداد التاريخ الحقيقي للشعب الفلسطيني، وخبرته، ومقاومة استثنائه من المعرفة والثقافة ومن الشعور بالهوية المشتركة والواقع المشترك والهدف المشترك، هو الماثل الآن، وما تلح الذاكرة على رسمه هو استرداد التاريخ الحقيقي والمعنى على الضد من السرديات المستعارة.

في هذا الأفق الذي يتخطى ما آلت إليه حركة وطنية قادتها أكثر شبهاً بمتراهنين حول طاولة قمار، يرسم الفلسطيني المنسي في فلسطين الشرقية وغزة والجليل وقرى ومدن الساحل الفلسطيني ملامح دوائر ثلاث متشابكة، هوية وهدفاً وحركة، فيزدري ابن الجليل التسمية الاستعمارية، عرب إسرائيل، ويستعيد اسمه الحقيقي (الفلسطيني)، ويتأهب أبناء نابلس والخليل لتخطي حواجز جندرمة الجنرال "دايتون"، وتخرج غزة من بؤس عباءات الأفغان وعمائم الطاجيك؛ هذا هو الأفق الممكن للخلاص من متاهة الاستيراد والاستهلاك اللذين شكلا اقتصاد ثورة تصح عليها تسمية "الثورة المغدورة".

كان الفلسطيني قبل ستينات القرن الماضي يعيش مأزق الافتقار إلى حركة وطنية شاملة تمنح جذوره الحية النابضة جذعاً وأغصاناً وأوراقاً، أما بعد الستينات، فقد أصبح يعيش مأزقاً بسبب حركة وطنية تم التلاعب بها والمناورة بها فطمست ملامحه وحضوره.

ولكن، صحيح أن "أوسلو" حطمت أغصان الشجرة الفلسطينية وأسقطت أوراقها وهي على وشك الإثمار، إلا أن جذور الشعب الفلسطيني تظل حية ونابضة، فهو ليس بدعاً بين الشعوب، بل هو نموذج في قدرته على مواجهة التحديات الخارجية، واليوم الذي سيواجه فيه التحدي الداخلي، وإن تأخر، لن يطول انتظاره.


(كاتب فلسطيني)

دلالات