حلم قطار الليل

15 فبراير 2016
لوحة للفنان الأميركية كارول سيراك (Getty)
+ الخط -
كان ذلك في المرحلة الأخيرة من البحث المضني عن كاترينا، حين انقطع الأمل، نهائيّاً، في العثور عليها. هكذا، بعد انقضاء شهور طويلة، عادت الأمور إلى نقطة البداية، وبقيت الاحتمالات كلّها مفتوحة عن سرّ اختفائها. في تلك المرحلة، راحتْ تدهمني بلا انقطاع الأحلام الغريبة. 

كان حلماً صباحياً رهيباً في قطار الليل الذي أعادني من سولاك، مجتازاً السهول الشاسعة التي يلفّها البرد والظلمة. بتُّ معتاداً النوم في قطارات الليل، ولم يعد يضنيني فيها السهاد، كما من قبل. أخذني الحلم حين استفقتُ الساعة الثامنة، مُرهَقاً، ثم غلبتني الغفوة من جديد. وجدتُني في بيت حجري صغير، من طبقة واحدة، له، جهة اليمين، باب خشبي قديم، داكن، يفضي إلى غرفة بلا نوافذ، توصِلُ بدورها إلى قبو مغلق تماماً. بيت شبيه بالطبقة السفلى من دارتنا في الجبل، في مدينة الصيف، لكن معزولة في مكان ما، لا أعرفه، ومن دون البناء المرتفع فوقها.
كان أمراً شديد الهول والقسوة، بالغ الظلم، يخلو على نحو لا يُصَدَّق، من كل منطق ومن كل قياس. مع ذلك، ليس من سبيل لردّه. تلك الحالة الخانقة، التي يجد المرء فيها نفسه عاجزاً تماماً عن تغيير أي شيء، في مسارٍ رهيب، مرسوم بلا عودة، ذاهب بلا هوادة إلى غايته، على الرغم من عبثيته وغرابته المطلقة.

اقرأ أيضًا: عن احتضار الأدب الكبير

كانت والدتي في قبو هذا البيت، وهي في عمرها الحالي، البالغ أربعة وتسعين عاماً، مرتدية الأسود نفسه، وقد حكموا عليها بالموت شنقاً. والشنق سيتمّ بحضوري في هذا القبو. لم أعد أتذكّر التهمة الموجّهة إليها، وأظنّ أنّي لم أدركها في حينه أيضاً. ومع أن الأمر لا يتوقّعه ولا يتقبّله عقل، فما تقرّر قد تقرّر، ولا شيء يحول دونه.

كانت أختي الكبرى جالسة على كرسي في الغرفة الأمامية، وهي تنظر إليَّ ولا تستطيع مساعدتي قطّ. كانت تنظر إليَّ فقط، مثبتةً عينيها عليَّ طوال الوقت، وقد بدت أصغر ممّا هي عليه الآن بنحو ثلاثين عاماً. كانت هادئة وقلقة في آن معاً، وكان قلقها خفيّاً ومُسيطراً عليه، ولا تعبير على وجهها.

في لحظة ما، دخلتُ القبو من الغرفة الأمامية، ووجدتُ نفسي أمام رجال أمن، أحدهم على كرسي، وبعضهم متحلّق حوله. كان أحدهم أيضاً مختلفاً عن الآخرين، يلبس سروالاً قصيراً، وقميصاً صيفيّاً يُظهِرُ ذراعيه وكامل رقبته وبعض صدره وظهره، وكانت بشرته بيضاء نقية. لكنّ موقفه مما يحدث لم يكن مغايراً لموقف رفاقه، بل كان على الأرجح أكثر برودة وقسوة.
توجّهتُ إلى رجل الأمن الجالس، وخاطبته على مسمعٍ من الكلّ، بصوت مرتفع، ملؤه القوّة والتأثّر والحماس والاستغراب، وقلتُ إن هذه المرأة المسنّة هي مثال الحياة الفضلى، وهي مثال الأخلاق، والبراءة، والعفّة، والصدق، والشفافية، والعاطفة، والضمير، واحترام الحقيقة، وتقديس الواجب، وفعل الخير. وإن الحكم الصادر بحقها ضربٌ من الهلوسة والجنون، لا يمكن أن يصدر عن ذات بشرية، أو روح عاقلة. تكلّمتُ طويلاً، بالنبرة عينها، وبالقلب المحروق نفسه.

اقرأ أيضًا: عن ملاجئ الروح

لكنّي كنتُ أحسُّ في قرارتي بأن كلامي لن يغيّر في الأمر شيئاً. لم يجبني رجل الأمن ببنت شفة، ولا الرجال الآخرون. كانوا فقط ينظرون إليّ، وتشي نظرتُهم بأنّ ما كُتِب قد كُتِب، وأن عملية الشنق ستتم فوراً، وفي هذا القبو.

كانت والدتي واقفة في مكان ما في القبو، وكانت بالغة الهدوء، لم يُسمع لها صوت، ولم تنطق بكلمة، ولم تتدخّل قطّ في ما يجري. بالغة الهدوء والتماسك. بعد قليل، أخرجوها من القبو إلى الغرفة الأمامية لتودّعنا، أنا وأختي. كانت مستلقية على ما يشبه السرير. فكّرت في لمس رأسها الأبيض الشعر وعنقها، كي أعبّر لها عن محبتي وعطفي الهائلين. لكنّي لم أفعل. قلت في نفسي إن والدتي ونحن، لا نعبّر عن مشاعرنا بعضنا تجاه بعض باللمس والقبلات، وإني إذا مررتُ يدي على رأسها وعنقها، ستشعر أنها علامة ضعف منّي وشفقة في غير محلّهما، وعلى غير عادة بيننا. فلم أفعل.

بعد قليل أعادوها إلى القبو لتتم عملية الشنق. بقيتْ أختي في مكانها، في حالة الانتظار والعجز نفسها. دخلتُ أنا القبو. علّقوا الحبل، ومعه ما يشبه السلك الحديدي الذي لفّوه حول عنق والدتي، وجعلوها تتدلّى بقامتها الصغيرة، المسنّة، وهي ترتدي ثياب حياتها اليومية. انحنيتُ قربها، وأحطتها بقوة بذراعي، كي أخفّف عنها بعض الشيء، هول الشنق وآلامه المبرحة. لم يعد من كلام في المكان مذ أنهيتُ مخاطبتي رجال الأمن. لم تقطع أمي الصمت بأي كلمة، أو تأوّه. كانت متقبّلة ما يجري، كأمرٍ لا مفرّ منه، مهما يكن رهيباً.

لكن عملية الشنق لم تنجح، لا أدري لماذا، مع أنه طال أمدُها. عندئذٍ، أخذوا أمي ليشنقوها في مكان آخر، بعيداً منّي، حيث لا سبيل لي لرؤيتها. كان وقتاً مروّعاً لا يوصف.
حضر بعد ذلك أناسٌ كانوا جيراناً لنا في زمن الطفولة، رجلٌ ومعه ابنة أطول منه وولد يافع. كنا نحن غارقين في مأساتنا، وهم في عالم آخر لا يدرون بشيء. ثم لا أعرف كيف، في لحظة ما، وجدتُ نفسي معهم في قريتنا الجبلية، في فصل الصيف. كان همّهم تغيير الفندق الذي نزلوا فيه، ويريدون مني مساعدتهم. كنت أنا في دنيا وهم في دنيا، تفصل بينهما وهاد سحيقة.

اقرأ أيضًا: أين جبران؟

كانوا يشرحون لي بإسهاب لماذا يرغبون في تغيير فندق "بلمون"، مع أنه، بنظري، هو الأفضل والأجمل في منطقتنا، ويوردون قدراً لا حصر له من التفاصيل الصغيرة المضنية، وأنا غارقٌ في مأساة والدتي، ولا سبيل لي للعودة إليها. عبر أمامنا رجل الأمن، المرتدي السروال القصير، والكاشف عن ذراعيه ورقبته وبعض صدره وظهره، ببشرته البيضاء النقية نفسها، فيما شمس الصيف ساطعة في كل مكان. أدركتُ حينئذ أن عملية الشنق قد تمّتْ، واستفقتُ مرعوباً من رقادي.

آخر ما بقي في ذاكرتي وأنا أستفيق، أني قررتُ، في لحظة، أن أكتبَ إلى كاترينا أن والدتي، البالغة أربعة وتسعين عاماً، وجدّي، لأبي، توفّيا اليوم. مع أن جدّي فارق الحياة قبل أكثر من أربعين عاماً وكان طاعناً في السنّ.

وعند استفاقتي الداهمة، وصل إليَّ بكاءٌ متواصلٌ لطفل صغير، أدركت أنه الطفل الذي ينام مع والدته في سرير قطار الليل، تحت سريري، وكان ودّعني بابتسامة قبل أن آوي إلى الفراش.
المساهمون