ألكسندر دوغين: من الفكر إلى "دماغ بوتين"

19 أكتوبر 2015
ألكسندر دوغين
+ الخط -
أيُمكن فهم السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية من دون البحث في خلفيات الإيديولوجيا الجديدة التي تقف وراء هذه السياسات؟ أيمكن قراءة التدخّل العسكري الروسي في سورية، وقبل ذلك في أوكرانيا، من دون سبر أغوار التفكير السياسي للقادة الجدد في الكرملين، ومن دون الوقوف على المرجعية الفكرية للرئيس فلاديمير بوتين؟. تجمع الأسئلة الآنفة بين السياسة والفكر، أي الثقافة. وسيكون الظنّ بأن "السياسة الخارجية" لبلد ما، لا تنطلق من أرض فكرية صلبة، أمرًا غير مقبول في عالم اليوم.

من "حديقة" الفكر والثقافة إن جاز التعبير، انطلق المفكّر السياسي الروسي ألكسندر دوغين. فبعد مسار أكاديمي أستاذاً في جامعة موسكو، ودرجتي دكتوراه؛ واحدة في تاريخ العلم وأخرى في العلوم السياسية، فضلًا عن تأسيس دار نشر وعدة مجلات، اتجه دوغين إلى عالم السياسة. ألّف دوغين، الذي يتحدث تسع لغات، عشرات الكتب التي تدور في فلك تقاطع الفكر مع السياسة من خلال تجديد نظرية "الأوراسية". لدوغين الضليع بالفلسفة كتاب أيضًا بعنوان : "مارتن هايدغر؛ فلسفة البداية الأخرى".

وللاقتراب أكثر من أجواء الانتقال من صفوف التأليف والأكاديمية إلى صف السياسة، لا بدّ من عودة سريعة إلى الواقع السياسي لروسيا سنوات خلت؛ فمع انتهاء "الحرب الباردة"، أو كما يطيب للبعض تسميتها بحقبة "ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي"، انقسم مواطنو الجمهوريات السوفييتية السابقة، ومواطنو دول حلف وارسو الاشتراكي، بين مُرحّب بالليبرالية والانفتاح الاقتصادي بعد عقود من الاشتراكية والعزلة عن العالم الخارجي، حيث رأى هذا الفريق في التغيير السياسي والاقتصادي فرصة لتوسيع مساحة الحريات المدنية واللحاق بركب النمو الاقتصادي العالمي، وبالمقابل عبّر تيار من الاشتراكيين المتطرفين عن حنين لأيام الإمبراطورية، معتبرين "انهيار الاتحاد السوفييتي بمثابة الكارثة الجيوسياسية الأكبر في هذا القرن"، على حدّ تعبير فلاديمير بوتين. وبينما انصرف الفريق الأوّل من الليبراليين ورجال الأعمال إلى بناء الشركات والاستثمارات مع نظرائهم الغربيين، انشغل الفريق الثاني بالتنظير لأيديولوجية جديدة، تُعرف باسم "الأوراسية Eurasianism"، على طريق استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية والانتقام من القوى الغربية التي تآمرت على الاتحاد السوفييتي وأودت به. وقد وصف "أبو الأوراسية الجديدة"، الفيلسوف والمفكر ألكسندر دوغين، المعركة بين روسيا والغرب بصراع ملحمي مع المادية الأميركية، وفي مرحلة ما من هذا الصراع سيتم تدمير "الإمبراطورية الأميركية".

اقرأ أيضًا: القس ألفونس، حامل أقدم مصحف للغرب

الإيديولوجية الأوراسية الجديدة

لفهم روسيا الجديدة، لا بدّ من فهم طبيعة الإيديولوجية "الأوراسية الجديدة" التي باتت تحظى بقبول في أوساط واسعة من النخبة السياسية والإعلامية والفكرية في روسيا بما فيها الرئيس فلاديمير بوتين. ولا يمكن سبر أغوار هذه الإيديولوجيا من دون قراءة أفكار ألكسندر دوغين، مؤسس "الحركة الأوراسية" في روسيا، الذي يُحدد في محور نظريته الجيوسياسية، أن مهمة روسيا تتمثّل في تحدّي هيمنة الولايات المتحدة على العالم، داعيًا إلى تعبئة شعوب أوراسيا (أوروبا آسيا) بقيادة روسيا، بما في ذلك جمهوريات الاتحاد السوفييي السابق وألمانيا وأوروبا الوسطى والشرقية، للتحالف مع تركيا وإيران، وإقامة تحالف "طبيعي" مع الإسلام لضمان وصول الروس لموانئ المياه الدافئة". يدافع دوغين في كتابه "الطريق الأوراسي كفكر وطني" عن أفكار النزعة الأوراسية المحافظة بصفتها قاعدة إيديولوجية للسلطة الروسية الجديدة. أما في كتابه "النظرية السياسية الرابعة"، فإنه يُنظّر لإيديولوجيا سياسية جديدة تماماً، فبعد أن يحدّد الإيديولوجيات السياسية الرئيسية التي هيمنت على العالم الصناعي الحديث حتى الآن: الديمقراطية الليبرالية، الماركسية، والفاشية، يقول إن الفاشية والماركسية خسرتا في اللعبة العالمية، بينما صعدت الديمقراطية الليبرالية إلى السلطة وأصبح العالم بأسره يعيش تحت حكم الإيديولوجيات الليبرالية الديمقراطية، التي تمحو التقاليد والثقافات في البلدان التي تهيمن عليها. تتجسد النظرية السياسية الرابعة في رأي دوغين في الاتحاد ضدّ الليبرالية الديمقراطية، وتعزيز قيم الثقافة والتقاليد الوطنية. ويرى دوغين أن الكثير من قيم الليبرالية الديمقراطية هو غربي، بعد ما تمّ فرض النموذج الإنجلوسكسوني للثقافة والحكم، على بقية العالم، مما جعل "الليبرالية" القائمة على التحرر من جميع أشكال الهوية الجماعية، نوعًا من الإبادة الثقافية.



الحضارة والهيمنة

يعتقد دوغين أن أميركا تقود "الدكتاتورية العالمية" التي تّدعي أن التاريخ لا يعيد نفسه، وأنه أحادي الاتجاه ومركزه أميركا التي تنظر إلى نفسها باعتبارها قمة كل الحضارة الغربية". ويقول إن هذه الفكرة تضع العالم تحت الوصاية الأميركية وكأنها تخلق بذلك "معسكر اعتقال عالمي". يرفض دوغين المفهوم الغربي للحرية، ويصفه بـ "نموذج العبودية الأكثر إثارة للاشمئزاز، لأنه يدمّر كل أشكال الهوية الجماعية، ويجعل الفرد متحررًا من أي نوع من القيود، بما في ذلك الأخلاق، والهوية والضوابط الاجتماعية أو العرقية".

وقد يكون ممكنًا في هذا الإطار الالتفات إلى استناد دوغين على "مساوئ" العولمة وقد تجّلت في محو الثقافات المحلية، والإعلاء من قيم ثقافة "الليبرالية الديمقراطية"، ذلك لأن نظرة دوغين إلى الحضارة، تخالف المقولات الغربية التي سادت في تسعينات القرن الماضي مثل "صدام الحضارات" و"نهاية الحضارات"، واضعًا مقابلها تصورًا رافضًا أساسًا لـ "فكرة
التفوق الحضاري"، إذ يرى أن كل حضارة يمكن أن تكون لها تصوراتها وأن تتعايش مع الحضارات الأخرى، مع المحافظة على هويتها في الوقت ذاته.

يرى دوغين أن روسيا مرّت بمرحلتي الشيوعية والليبرالية، ويتوجب عليها الآن الدخول في مرحلة جديدة تعتمد أسسًا أخلاقية جديدة، بديلًا عن قيم المادية الاستهلاكية البرجوازية. ويجب القول إن هناك تطابقًا بين طروحات دوغين الفلسفية والممارسة السياسية للرئيس بوتين الساعي إلى بناء الاتحاد الأوراسي الواسع الأبعاد الذي يضمّ كلًا من روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا وأوكرانيا. ويعتبر دوغين أن النموذج الروسي الراهن هو تجسيد للنظرية السياسية الرابعة، حيث تشكّل روسيا حضارة متحررة من النفوذ الأميركي، وهو ما يُفسر تحالف الولايات المتحدة والغرب ضدّ روسيا للدفاع عن التفوّق الغربي.

لم تمر أفكار دوغين مرور الكرام، واتهم بالفاشية، وردّ على ذلك بالقول إن النظريات الشيوعية والفاشية والليبرالية قد فات أوانها في القرن العشرين. وأن روسيا تواجه الآن تحديات مرحلة جديدة أو بالأحرى مرحلة "الثورة الروسية الوطنية المحافظة" التي تتصف بالجمع بين الأصالة والوفاء للتقاليد والأخلاق الوطنية من جهة، والبرنامج الاقتصادي اليساري الذي يقضي بالعدالة الاجتماعية والحدّ من فوضى السوق والتخلّص من عبودية الفوائد المصرفية وحظر المضاربة في البورصة والاحتكارات، وانتصار العمل النزيه على نزعة السعي إلى كسب المال.

دوغين أو "دماغ بوتين"

تصف الأوساط الغربية التي تُلقب الفيلسوف دوغين، بـ "دماغ بوتين"، بأنه "العقل المدبر" وراء قرار ضمّ الرئيس بوتين لشبه جزيرة القرم. فقد حرض منذ العام 2008، خلال الحرب بين روسيا وجورجيا، على التركيز على أهمية ضمّ شبه جزيرة القرم. وقد دعا آنذاك إلى نشر القوات الروسية على طول الطريق إلى العاصمة الجورجية، تبليسي، وإطاحة الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي ثم الانتقال للسيطرة على القرم، على أن يتبع تدخلًا عسكريًا في شرق أوكرانيا، التي يسميها دائمًا "نيو روسيا" Novorossiya، وهو الاسم ذاته الذي يستخدمه الرئيس بوتين في خطاباته. يلوم دوغين الليبراليين على منع الرئيس بوتين من إرسال قوّات لمحاربة "المتمردين" في دونتيسك ولوهانسك. ويقول إن :"الرئيس بوتين تردّد على ما يبدو في التدخّل العسكري في أوكرانيا، نتيجة لصراعين؛ واحد داخل الحكومة الروسية متمثّلًا في الصراع بين القوى الوطنية الأرثوذوكسية المحافظة، والقوى الليبرالية، القوية جدًا، التي رأت أن مثل هذه الخطوة ستشدّد من الحصار الدولي على روسيا، الأمر الذي سيضر بمصالحها. والصراع الآخر داخل الرئيس بوتين نفسه، الذي وجد نفسه "مقسومًا" بين التيارين؛ فهو يريد دعم القوى الوطنية المُؤيدة من قبل معظم الروس الذين لا يثقون بالنخبة الليبرالية ويتهمونها بخلق الفوضى منذ تسعينيات القرن الماضي، وبالمقابل لا يمكنه التخلّي عن القوى الليبرالية النافذة في النخبة السياسية، وعلى رأسها رئيس وزرائه، ديمتري مدفيديف".

منظور "البرية - البحرية"

يقول دوغين إن الصراع في منطقة غرب آسيا هو صراع بين "القوى البرية" ممثلّة في روسيا والصين، وبين القوى البحرية ممثلّة في الولايات المتحدة. وإن هذا الصراع الجيوسياسي والجيواستراتيجي صراع متجدد، وتجلّت أقوى جولاته في هزيمة القوّة البرية ممثّلة في الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات. من هنا يظنّ دوغين أن وصول بوتين إلى السلطة، شكّل إعادة للهوية الجيوسياسية لروسيا كقوّة برية، وانطلاقًا لجولات جديدة من الصراع بين القوى البرية والقوى البحرية. فمن خلال منظور القوى "البرية - البحرية" هذا، "يفسّر" دوغين تلك الجولات الجديدة، التي يحدّدها بثلاث: الجولة الأولى كانت الحرب الشيشانية (1999-2009) التي دعم فيها الغرب والسعودية وإسرائيل القوى الشيشانية المعادية لروسيا والساعية للانفصال كمقدّمة لتمزيق روسيا، إلا أن القوّة البرية انتصرت في هذه المعركة. والجولة الثانية كانت عام 2008، خلال الأزمة الجورجية، حيث ساند الغرب الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي في مسألة أوسيتيا الجنوبية، مما دفع روسيا للتدخّل الحاسم وتحقيق الانتصار الثاني. وفي ظنه فإن الجولة الثالثة لا تزال رحاها دائرة في سورية. ويقول دوغين في هذا الصدد "لا بدّ لبوتين من الوقوف في هذه الجولة إلى جانب سورية، لأن التخلي عن الأسد يعني "الانتحار الجيوسياسي لروسيا".

يعطي دوغين الجولة الثالثة أهمية فائقة، إذ يرى في "الأزمة" السورية، المعركة الكبرى بين القوى البرية والقوى البحرية، التي يجب أن تنتهي، بالحسم العسكري، لتُؤدي إلى تعدد قطبي، وتلجم التغلغل الأميركي، مع إقرار واشنطن بالبنية الجديدة للنظام الدولي. ويذهب أبعد إذ يعتقد أن تخلي روسيا عن الأسد يعني أن بوتين "يكتب بنفسه شهادة وفاة روسيا ووفاة العالم متعدد الأقطاب".

المساهمون