عالم النشر العربي أوهام أقل

14 يونيو 2016
غلاف كتاب "نظرة على النشر العربي"(العربي الجديد)
+ الخط -
مؤخرًا صدر كتاب بحثي عن دار نشر كارتالا الفرنسية بعنوان : "نظرات على النشر في العالم العربي". العنوان دقيق، فصيغة الجمع "نظرات" تتناسب مع عدد المقالات التي كتبها باحثون في صناعة الكتاب وعالم والنشر، أما "العالم العربي" في العنوان فيعني لبنان وسورية والأردن وفلسطين والعراق ومصر والجزيرة العربية والمغرب. 

نقرأ في تصدير الكتاب أن تاريخ الطباعة يختلف من بلد عربي إلى آخر كما تختلف المناهج التحريرية، والتي ترتبط بشكل مباشر بقدم التقاليد كما في لبنان ومصر، أو طابعها الحديث والمرتبط بالتطور الاقتصادي المتسارع منا في دول الخليج العربي، فضلًا عن بطء مسار النشر وصناعة الكتاب نتيجة للأزمات والحروب، كحال اليمن والعراق وسورية مؤخرًا.
يتناول الكتاب مختلف الظواهر المتعلقة بصناعة الكتاب، ومن بينها "وجود سوق كِتاب عربي" من خلال ظاهرتين تعرضتا للدراسة في هذا المؤلَّف الجماعي: الكتاب الإلكتروني، الذي لا يزال، سوقا جنينية، بالتأكيد، ولكنه مدعو، بصفة لا مفر منها، إلى التطور، وأيضا الكتب الموجهة للشباب، وهي من دون شك أحد القطاعات النادرة التي يحقق فيها النشر العربي إنجازات مذهلة في العديد من البلدان، خصوصًا في لبنان وفي مصر، ثم في دول الخليج، منذ فترة قصيرة، إن على مستوى المحتوى أو على مستوى موضوع الكِتاب ذاته.

وقد لاحظ الكاتب اللبناني شريف مجدلاني، الذي أشرف على الكتاب مع الباحث والكاتب الفرنسي فرانك ميرمييه، أننا نعلم، منذ البداية، وضعية الكِتاب في العالم العربي، حيث "ندرة المعطيات الجديرة بالثقة، وحيث الأرقام والإحصاءات التي تنقصها الصدقية". من دون أن يغفل العوامل الموضوعية التي تعدّ من صعوبات إنجاز كتاب بحثي مماثل: "فالظروف ساءت في الآونة الأخيرة في المنطقة إلى درجة أن أدنى محاولة تحقيق أو تجميع للبيانات تبدو وكأنها تحدّ حقيقي"، ما يجعل "الحديث عن الكتاب والقراءة مسألة عديمة الأهمية، بسبب تفكك المجتمعات وصعود التيارات الظلاميّة"، بيد أن صعوبات البحث هذه أثرت في بلورة إشكاليته من خلال ضرورة الأخذ في الاعتبار "كون السبب الرئيس يكمن، تحديدًا، في تدني الأهمية والاعتبار الذي يتواجد فيه الكتاب والقراءة منذ عقود، ثم أيضًا المصير الذي عرفته الثقافة والمعرفة والتفكير وتطور التفكير الفردي".

وقد التقى "ملحق الثقافة" مع الباحث الفرنسي فرانك ميرمييه، الذي سبق له أن ألّف كتابًا عن النشر في بيروت : "الكتاب والمدينة؛ بيروت والنشر العربي"، الذي أوضح الرهان الأساس الذي حكم تأليف "نظرات على النشر في العالم العربي"، فقال: "ما يجب رؤيته، هو وجود حقل دراسات حول المطبعة والنشر في العالم العربي، والتي تشكلت في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية، وفي العالم العربي، حيث عُقدت ندوات حول بدايات المطبعة في العالم العربي، بشكل عام وفي كل بلد على حدة. والواقع أن حقل الدراسات التي ولدت في أوروبا والولايات المتحدة ونظيرها في العالم العربي لم يلتقيا إلا قليلًا، رغم وجود بعض التقاطعات بينهما وبعض التأثير المتبادل. وتنقصنا في هذا الكتاب دراستان إحداهما حول النشر في تونس والثانية عن النشر في الجزائر، والحقيقة لا يوجد الشيء الكثير عن النشر في الجزائر، وقد كنتُ حريصًا على حضور تونس والجزائر، خاصة لأنهما بلدان فرنكوفونيان. وما يثير الانتباه في المغرب العربي،هو وجود حقلين أدبيين فرنكوفوني وعربي، وأحيانا حقلين تحريريين كما هو الحال في المغرب من خلال تواجُد نقابتين للكِتاب، إضافة إلى ظاهرة التعريب، التي هي مهمة في المجال الجامعي. كما أن هدف هذا الكِتاب هو الحثّ على مواصلة البحث في هذا المجال، ولمَ لا إنجاز كتاب عن الطباعة والنشر في المغرب العربي، وهو ما سيكون بالغ الأهمية بسبب العلاقات الوثيقة التي تربطه بالشرق العربي، أي بسبب وجود علاقات تبعية للنشر المغاربي نحو الشرق العربي، والدليل هو أن المغرب العربي يستورد من الكتب أكثر ممّا يُصدّر".

ويبدو أن بيروت والقاهرة، ما زالتا تحافظان على صيتهما في الريادة، وهو ما يؤكده فرانك "عاصمتا الكتاب هما بيروت والقاهرة، صحيح توجد عمّان، لكن هاتين العاصمتين تخوضان حاليًا منافسة بسبب القوة المالية لدول الخليج العربي وإرادة هذه الأخيرة في فرض نظام إقليمي ودولي، وهو ما دفعها لخلق برامج نشر وتأسيس جوائز أدبية مهمة، الأمر الذي جعل التأثير الثقافي يميل نحو أبوظبي والدوحة وغيرهما. ولا يجب أن ننسى أنه في ستينيات القرن الماضي كانت الكويت رائدة. وأنت تعرف أن المطبعة لم تدخل إلى دول الخليج إلا في فترة متأخرة، الكويت سنة 1948، لأنه كانت لا تزال هناك ثقافة المخطوطات. والأشكال الحديثة للكتابة، كالرواية والدراسات العلمية، لم تكن مستقرة بعد، ومن كان يريد النشر كان يتوجه إلى القاهرة، واستمر الأمر حتى بداية الستينيات من القرن الماضي، مع قانون التأميم، أو كان يتجه إلى بيروت. والكويت بلد رائد في الجزيرة العربية لأنها لعبت دورًا قوميًا بالغ الأهمية".

وخلافًا لما يقال عن أزمة الكتاب العربي عامة، فإن لدى مرمييه اهتماماً بموضوع النشر ودراسته، "لأنه مرتبط بوجود سوق عربي للكِتاب. ومن أجل دراسة حالة الإنتاج الثقافي في العالم العربي، التي نلاحظ، للأسف، أن الأرقام والإحصاءات الدقيقة من الصعب الحصول عليها، إذ حتى إحصاءات منظمة اليونسكو عن العالم العربي مغلوطة، سواء تعلق الأمر بالترجمة أو النشر، كما أن الإيداع القانوني لا يحترم كثيرًا في العالم العربي. والإحصاءات القريبة للواقع هي الإحصاءات المصرية، من دون أن ننسى وجود طبعات موازية وسرية. لكن من خلال حضور مَعارض الكتاب ورؤية ما يتمّ عرضه، يمكن تبيّن وجود عجز كبير في الكتاب العربي، مقارنة مع دول أخرى. ومنذ خمس عشرة سنة تم التركيز على ظاهرة ضعف الترجمة في العالم العربي، بعد صدور تقرير برنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية سنة 2002، الذي ارتكز على أرقام مغلوطة، فقد رجعتُ إلى الكِتاب الذي اعتمد عليه التقرير وهو كتاب شوقي جلال: "الترجمة في العالم العربي، الواقع والتحدي"، ولكنه، هو أيضًا، يعتمد على إحصاءات اليونسكو، وهي إحصاءات مغلوطة. رغم هذا فإن التقرير دفع العديد من الدول العربية إلى خلق برامج ترجمة، وفي كتابي عن النشر في بيروت "الكتاب والمدينة" تحدثت عن 2000 إلى 3000 كتاب مترجم في السنة، في العالم العربي، وهو ما يتناقض مع 500 كتاب مترجم التي ذكرها التقرير. وإذا كان العالم العربي يعرف رواجًا كبيرًا للرواية في كل الأقطار العربية، فإنها الشجرة التي تخفي الغابة، لأن كثيرًا من الميادين غائبة عن النشر، وخاصة الكتب التي تتناول الفكر النقدي والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ما يعني أن الرقابة تنشط في هذه المجالات، وهو ما تطرقت إليه في أحد أبحاثي "الرقابة على الكِتاب في الفضاء العربي. ورغم وجود العديد من دور النشر الصغيرة في العالم العربي، ويتمتع أصحابها بثقافة كبيرة وحسّ نقدي، إلا أن الإمكانات المالية المحدودة لا تسمح لهم بنشر الكثير من الكتب التي تتناول العلوم الاجتماعية والإنسانية. كما أنها ضحية للرقابة ولحدود الرقابة".

وبالطبع لا يمكن الحديث عن عالم النشر العربي من دون التطرق إلى الكتب الدينية، وهنا أجاب فرانك : "إذا كان النوع السابق من الكتب يتعرض لبعض المتاعب، فإن الكتاب الإسلامي يتمتع برواج كبير، وهو الأهم من ناحية النشر والتوزيع. ويمكن أن نعزو الأمر لاعتماد هذه الدور التي تنشر الكتاب الإسلامي على شبكات توزيع وعلى تواطؤات أيديولوجية تتيح ظهور طبعات متزامنة للكتاب نفسه في العديد من الدول العربية. وهو ما يفسر، في بعض الجوانب، كيف تطورت الطباعة والنشر في بيروت في ستينيات القرن الماضي. إذ بعد تأميم دور النشر بعد الثورة في مصر، اضطرت دار الشروق للاستقرار في بيروت. وفي هذه الفترة، بالذات، تلقفت دور النشر اللبنانية معظم الطبعات المتعلقة بالتراث العربي التي كانت قد أنجزتها دور نشر مصرية من قبل، إضافة إلى السوق التي انفتحت في دول الخليج العربي.

ولكن الكِتاب الإسلامي أيضًا، رغم قوته، يعاني اليوم من حالة إشباع، لأن المُؤلَّف نفسه يُطبَع في هذا البلد العربي وذاك، ما أدّى إلى إتخام الأسواق. وظهرت مؤخرًا دور نشر عربية تتجه نحو الأدب، وتعرف رواجًا مهماً إنْ بسبب الجوائز الأدبية أو بسبب التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية، والتي فتحت آفاقا للحرية والبحث عن ما هو ذاتي، وهو ما جعل الرواية تصبح، أيضا، فضاءً للحريّة النسبية طبعًا. ولكنها تظلّ حرية موجودة وتتطور، ولعل ظاهرة الرواية في المملكة العربية السعودية، وخاصة المكتوبة من قبل نساء، تدلّ على تطور الحرية.

النشر كبنية يتضمن أشكال التعبير، لأنه إذا لم ننشر فليس مهمًا أن نكتب، كما أن النشر انعكاس قويّ للمجتمع العربي، وهذا ما يهمّني كأنثروبولوجي". ويسبر الباحث الفرنسي أثر صعوبة جمع البيانات في النشر في العالم العربي : "من الصعب معرفة ما ينشر في العالَم العربي، لغياب مجلة متخصصة في الكتاب، على غرار المجلة الفرنسية "ليفر-إيبدو" Livre Hébdo. وهو ما يستلزم، فعلًا، إنشاء مجلة متخصصة في الكِتاب العربي. والمجلات الثقافية في هذا البلد العربي أو ذاك غير كافية لمعرفة حقيقة النشر. إضافة إلى الحدود التي تحول دون تنقل الكتاب العربي من بلد لآخَر، بسبب نزاعات سياسية، كحال المغرب والجزائر، وأيضًا تركيز الكتب المغاربيّة في كثير من الأحيان على القارئ المحلي، وهو ما يجعلها عصية على القارئ الأردني أو اللبناني، مثلًا، ويَحول دون انتشارها. ولديّ فرضية أعرضها تتمثل في أن ظهور حقل ثقافي وتحريري في بلدان المغرب العربي ولّد دور نشر كثيرة، لاستيعاب مثقفين وأدباء محليين، ولعلّ المثال الأقوى كان في تونس، بعد انبثاق الربيع العربي، من خلال انفتاح الجمهور التونسي على الأغنية التونسية وعلى الكتاب التونسي والرواية التونسية. وهو ليس انعزالا أو انطواءً على الذات، بل هو انفتاح على الإنتاج الثقافي والفكري المحلي بعد عقود من التبعية للشرق العربي. ونفس الظاهرة يمكن تلمسها في العربية السعودية من خلال انفتاح الجمهور هناك على مؤلفين وروائيين محليين، بعد أن كانوا يقرأون الرواية المصرية، نجيب محفوظ وغيره".

ارتباط النشر بالحرية بدهية، من هنا كان السؤال عن أثر "الربيع" في صناعة الكتاب العربي، فقال فرانك لـ "ملحق الثقافة" : "كان تأثير الربيع متفاوتًا من بلد لآخر. ففي تونس تراجعت الرقابة بشكل كبير جدًا، وانتشرت الكتابات في اللغتين الفرنسية والعربية. في سورية، أصيب عالَم النشر بضربات كبيرة، فلحق بعضها تدمير وإتلاف، ولكن السوريين لم تغادرهم حيويتهم، فقد رأينا افتتاح مكتبات سورية في إسطنبول، وافتتاح بعض دور النشر في الخارج، لبنان، مثلًا. وهذه الدينامية، التي طاولت معظم حقول الكتابة، مرتبطة بالثورة السورية. أمّا ما يتعلق بالعراق فالوضع كارثيّ، فحقل النشر ضعيف، رغم تنظيم بعض المعارض، وهو مرتبط بالوضع المعقد في هذا البلد والتدخلات الأجنبية. أما في مصر فقد عرف النشر في السنوات الأولى للثورة جوّا كبيرا من الحرية فظهرت مكتبات جديدة وكتب جديدة، كانت أقل عرضة للرقابة، أمّا اليوم، فمع الجنرال السيسي عادت الأمور إلى سابق عهدها، وأصبح الناشرون قلقين من الرقابة، بسبب الكثير من التجاوزات التي طاولت ناشرين وكُتّابًا وفنّانين وغيرهم. وهكذا فإنّ المنجزات ما تزال هشة في ظل نظام استبدادي".

ويختم الحوار بالتطرق إلى المعنى من البحث في النشر: "حقل النشر مرتبطٌ بمجالَيْن: التاريخ الثقافي وهنا يمكننا أن نعرف كثيرًا عن المجتمع من خلال بعض وجوه الناشرين والكُتّاب (مثال: صاحب "المكشوف" اللبنانية)، التي لم يكن يعرفها السواد الأعظم من اللبنانيين والعرب، والثاني يتعلق بالسوسيولوجيا، وعبرها يمكننا تحليل شكل الإنتاج الثقافي والعلاقات بين البلدان العربية، ويمكننا معرفة حالة التفكير من خلال ما يتمّ نشرُهُ. وفي العالم العربي توجد ظاهرتان، من يكتُبُ باللغة العربية ومن يكتب باللغات الأجنبية، وهنا تحضرني قول لأكاديمي فلسطيني صديق: "من ينشر محليًّا يموت عالميًا، ومن ينشر عالميًا يموت محليًّا"، وهو ما يكشف عن حالة استلاب عميقة في العالم العربي، وبالتالي فإنّ ما يُنشَر من كتب علمية ونقدية بلغات أجنبية لا يُقرأ في العالم العربي إلّا عبر الترجمة".
المساهمون