في مديح المعماريات

11 يناير 2016
لوحة لإغناسيو أوزيكه (Getty)
+ الخط -
في البداية يكنّ آنسات متحمّسات للجمال البادي من الاسم نفسه: هندسة العمارة، وقد يظننها معادلًا "أنثويًا" للهندسة المدنية، تلك الهندسة الصلبة التي تُعنى بتنفيذ التصميم الجميل، ويميل الذكور إليها عادة. إلا أن تجربة دراسة هندسة العمارة، تولّد لدى طالباتها - وطلابها أيضًا - "منافذ" ودروب شتى، تتفرّع من هذا الفرع المعرفي الذي ينوس بين الفنّ والجمال عند الوهلة الأولى، إلا أنه سرعان ما يكشف عن مهارة مطلوبة، تقول بإبدال اللغة والكلمات، بلغة أخرى قوامها المفاهيم والمجرد والقدرة على تحويلها من "أفكار" وأشكال إلى محسوسٍ وملموسٍ من الفراغات والكتل. وشيئًا فشيئًا تتكشّف هندسة العمارة عن صلابة لا تقلّ عن الهندسة المدنية. وقد تكون تلك الصلابة طاردة للصورة النمطية للـ معماري.

ومن الصحيح أنّه يمكن العودة إلى عدد المنتسبات إلى كليّات العمارة لمعرفة نسبتهن، إلا أن ثمة واقع - ليس عربيًا فقط - يقول إن العاملات في هذه المهنة في نهاية المطاف، قليلات.
إلا أن الاقتراب من عالم هندسة العمارة مرة، يشبه إلى حدّ كبير الاستسلام للمسة الملك ميداس الشهيرة، فالعوالم التي تنفتح من عالم العمارة، تشبه تناسل الحكايا في "ألف ليلة وليلة"، تمتلئ بالشغف والابتكار وما هو غير متوقع ومتوقع في آن معًا. كذا تميل المعماريات فعلًا أو المعماريات بـ"الروح"، إلى ابتكار مسارب للعمارة، تجمع الفن إلى العلم، وتؤكد أيضًا قول ابن خلدون: الجمال هو إدراك الملائم.

فمنهنّ من تجنح إلى الفلسفة خلف الجمال الظاهر، وإلى قوّة الأفكار في بثّ التوازن المدهش وما هو منطقي، وتفتنها تلك الطريقة المتفرّدة في التعبير عن المفاهيم، وذاك الانتقال "الواضح في ذهنها" بين المجرد والمحسوس، فتختار دراسة "تاريخ الفن" مثلًا، لئلا يفوتها شيء من كتابات المفكرين والفلاسفة عن علم الجمال. فالعمارة في واحدة من تعريفاتها الكثيرة: "تعبير عن الثقافة".

ومنهنّ من تجنح إلى الفراغ المفتوح للناس، شيء هو بين بين، ليس حيّزًا عامًا ولا خاصًا، فتجد في دراسة التصميم الداخلي للمتاحف، ضالتها. إذ إن توزيع اللقى والقطع الفنية ضمن فراغ المتحف، يعني بطريقة ما التأثير في الزائر، كي ينظر ويمشي وفقًا لمشيئة معمارية مماثلة. ولعلّها أيضًا تُعجب بالتحكّم بحركة الأجساد في حيّز آخر، هو المسرح، فتختار الاهتمام بفراغه ومكانه، إذ إن "المشهدية" غايتها.

والعمارة في واحدة من وجوهها، اقتراح المعماري على الناس خطواتهم وطرق تحرّكهم في المكان. وتضافر فكرة اقتراح الخطوة مع جاذبية الخلق والابتكار في العمارة، يولّد لدى المعماريات الميّالات صوب السيطرة اللبقة، شغف إدارة المشروع برمّته لا الاكتفاء بتصميمه.
تلك المسارب المتولّدة عن هندسة العمارة، ليست غريبة على المعماريات اللاتي برزن فعلًا في القرن العشرين من بعدما أضحى تدريس هندسة العمارة متاحًا أكثر من قبل.

ويستطيع المرء بالعودة إلى سيرة المعمارية الفرنسية اللامعة شارلوت بريان (1903 - 1999)، أن يقدّر ثانية الدرب الذي ابتكرته: عملت شارلوت سنين عديدة مع المعماري الفرنسي الشهير لو كوربوزييه (1887 - 1965)، وكان قد انطلق من فكرة تقول باختلاف تصاميم الكراسي تبعًا لحالة الجسد؛ أيعمل أم يسترخي أم يجلس؟ ولنقل الفكرة من المجرد إلى المحسوس، استعان المعماري بدمى خشبية من النوع الذي تتحرك أطرافه، وثبّت الوضعية التي أرادها؛ عامل، جالس، مسترخ. ثم جاء دور شارلوت لتصمّم ثلاثة كراسٍ غدت الأشهر في القرن العشرين كلّه. غاب اسم بريان اللامعة خلف بريق اسم لو كوربوزييه ورنينه.

وبالطبع لا يمكن الحديث عن المعماريات إلا والتطرّق إلى خاتون العمارة، العراقية الأصل زها حديد، التي تمثّل استثناءً صارخًا لمسار المعماريّات، إذ حادت عن الدروب الجانبية، واقتحمت بقوّة جادة المعماريين. ولم تكتفِ زها بتصميم الملاعب الرياضية والجسور وغيرها من الأبنية الضخمة، بل صمّمت أحذية رياضية وكذلك حليًا، من بينها سوارًا شبكيًا، نفّذه صائغ سوري جريء. وكانت زها في كل أعمالها تمتح من الفكر والفلسفة، فهي تنتمي إلى جيل المعماريين المتأثرين بالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا.

هكذا هندسة العمارة هانئة، فهي أخت الاستقرار والازدهار والمال الوفير والابتكار، هي العمران والحضارة. وماذا لو؟ ماذا لو كانت المعمارية فلسطينية؟ حيث المكان مكسّر مشظّى، والمحتل يريد طمس أثر كل عمران في مكان مقدّس ممتلئ بالآثار والأوابد التاريخية، خصوصًا تلك التي تدل على طريقة حياة الفلسطينيين، فيستعملونها ولا يعدونها أبدًا للنزهة والسياحة مثلًا.

المعمارية الفلسطينية سعاد العامري هي ضيفة هذا العدد من ملحق الثقافة. هي التي عرفها القارئ العربي من خلال كتابها الذائع الصيت "شارون وحماتي"، وكتابها الأخير "غولدا نامت هنا".
لم تختر العامري واحدًا من المسارات المحتملة للمعماريّات. لأن أمرها مختلف، لعلّ التحدي الأكبر هو في العمران في وطن محتل. ربما لهذا جذبها المُهمَل والمتروك والهامشي في قرى فلسطين، فأسست مركزًا لترميم تلك الدور أصغيرة كانت أم كبيرة. ودرست تراكب نسيجها المعماري مع النسيج الاجتماعي والعلاقات بين الناس ذكورًا وإناثًا، ولاحظت تحركهم في المكان، وكشفت عن اقتراحات المعماريين - بمعنى البنائين هنا - المحليين الفلسطينيين في تصميم تلك الدور. من خلال الترميم والتوثيق، اختارت العامري (حروف كنيتها تلتقي في جذرها مع العمارة)، تضميد جراح دور القرى وجعلها مكانًا دالًا من جديد على طريقة حياة الفلسطينيين.

نعم هذا المقال في مديح النساء، المعماريات منهنّ فعلًا وبحثًا ومهنةً، والمعماريات روحًا وشغفًا وافتتانًا، وكذلك ربّات البيوت، أي المهندسات الخفيّات في حيّزهن مملكتهن.

اقرأ أيضًا : عمران بغداد

المساهمون