تأملات في رسومات يحيى الشيخ

14 فبراير 2020
(من لوحات الشيخ التي استلهمها الطويبي في هذه القصائد)
+ الخط -

يا لثقل البيضة على الماء

البيضة تقترب لترى وجهها في الماء
لكنّها ترى فقط فقّاعة تصغر وتتلاشى

هيت لك قالت لفقّاعة الماء!
أنا –لا أعلم من أنا– خرجت من أرضٍ ليست كمثل هذي الأرض
ومن ماءٍ ليس كمثل هذا الماء

كلّما أحاول أن أمدّ يدي لا أجد يدي
وكلّما أحاول أن أدقّ على الجدار بقدمي، لا أجد قدمي
لا أعلم من الغابة غير هذا الركن وهذه السرعوفات العجلى

وهذي الشرانق المعلّقة كالقباب وهذي القناديل التي تتوهج بالضوء ليلاً
في الحلم يزورني رجلٌ يجلس ويشرب من إناء في يده شراباً حامضاً
ثمّ يصرخ عالياً ويقفز في الماء، لا يخرج الرجل لكن إناءه لمّا يزل يترنّح!


■ ■ ■


يا لثقل السحابة على العشب

العشب تعويذة الجن وخادم الريح
يعلم أنه ليس سريرًا للسحابة

العشب يجيد الانحناء ليدٍ خفيّة
لحمرة في الأفق لخفق جناحين

لصباح يصنع شهقاته على مهلٍ
لفراشات تتبع نهرها من الغرب إلى الشرق

لفصيل خيل تلمع أعرافها في ضوء الشمس
وسُرج لألاءةٍ في أعلى السماء


■ ■ ■


يا لثقل الزفرة على النار

غريب جاء من أرض الكثبان والريح
الأرض وراءه حقول قمح وشعير

نجواه بومة تقعى على أغصان الطلح والعوسج
شرابه سلس وضحكه حصىً ملقى في برية

"ما بقلبك يا غريب؟" تسأله النار
"ما لدموعك صارت زرقاء يا غريب؟" تسأله النار
"ما لخطواتك قصيرة وصدرك ضيّق يا غريب؟" تسأله النار

"زفرة وزفرة وزفرة" يجيبها الغريب


■ ■ ■


يا لثقل الحصاة على الأرض

تهرب من وميض البرق إلى حفرة الأرض
في حيرتها وفي جيب الليل الغارق في الحزن

تنسى أن تأخذ حبّة الحنطة
تنسى اسمها الذي أعطته لها أمها جنب البحيرة العظيمة
تنسى السهول البعيدة الغارقة في الصمت
لكنها لا تنسى أبدًا

شهوة الرمل، شهوة الماء، شهوة اليرقة
شهوة الندى، شهوة الإطلالة الأولى للحياة


■ ■ ■


يا لثقل الرصاصة على الصلاة

مثلما تأتي الصلاة بأشكال عديدة
تأتي الرصاصة كذلك بأشكال عديدة

مثلما يكون للصلاة ألف لسان
يكون للرصاصة ألف لسان

قد يكون لها مساجد وكنائس
قد تكون ملتحية ومقبّعة حاسرة الرأس ومحجّبة

هناك دائمًا رجل وامرأة خائفان
يجلسان في ركن ملجأ، أو زنزانة أو خلاء موحشٍ

يسترقان السمع إلى لغط جنود، زفيف رصاص، أو
وقع أقدام ثقيلة على رمل وثلج

هناك دائمًا رجل وامرأة يكونان الصلاة والرصاصة!


■ ■ ■


يا لثقل الأخضر على الورقة

تقسّمُ الورقة نفسها إلى جسدٍ ولهفة
الجسد للتراب واللهفة للشمس

وتقسّم الورقة الأيام إلى
كثيف، شاحب، نحيل، خصيب، بارد، مفتول، مربّع

الكثيف للغيوم الحبلى
الشاحب للظهيرات الساخنة

النحيل للغرباء العابرين ليلاً
الخصيب للبئر والبكرة

البارد للبرق يأتي فجأة ويرحل فجأة
المفتول للأودية العطشى

أما المربّع فلها حين تغرق في أحلامها.


■ ■ ■


يا لثقل الصمت على القرية

لك أن تأخذ شهيقا عميقًا كي
تمسك بمذاق القرية صباحًا

وشهيقًا عميقًا آخر كي
تمسك بحزن القرية ليلاً

لنوافذ القرية شبق الطيور
ولأغاني العاشقين سرج مذهّب وفرس وخيّال وجراب

أمّا أبواب القرية فلها رنين خلاخيل البنات
ووشوم النساء وحنّاء العجائز وصهيل الخيل فجرًا

وحدها زيتونة القرية تنثر
ما تراه وتسمعه في ساقية الماء


■ ■ ■


يا لثقل الغيمة على جناح الغراب

سمكةٌ تقف على رأس مثلّثٍ
تسبحُ أم تسبّحُ؟!

"أنا وُلدتُ من غيمة ذات خريف مطيرٍ" قالت السمكة
"لا إخوة لي وأبي كان من فقّاع الجبل" قالت السمكة

"وُلدتُ سمكةً بعينين ذهبيتين وذيلٍ طويل" قالت السمكة
"منذ أن وضعتني الغيمة على رأس هذا المثلث
وأنا أبحث عن نهر أو بحر أو حوض ماء" قالت السمكة
"سأنتظر أن تنتهي هذه الحرب، واقفز قفزتي الأولى" قالت السمكة

"سمعتُ غرابًا يقول لغراب آخر: لن تخرج هذه السمكة
إلا إذا علقت الشمس بخيط عنكبوت" قالت السمكة


■ ■ ■


يا لثقل الميت على التابوت

وأخيرًا أخذتَ ضجعتك رائقًا
تعلم أنّ حقل الفول ليس بعيدًا من مرقدك
وحقل التفاح هناك على يمينك

كيف تمرُّ السنوات عندك؟
السنوات كلّها في تلك الصرّة قريًبا من فتيل السراج
كيف تحسبها؟

أتمتم بأسمائها وإن أخطأت أعيد التمتمة
في أيّ سنة نحن؟
في عام الفيل والزلزلة والطيور الأبابيل

هل ترى شيئًا في أحلامك يحزنك؟
الكثير الكثير!
هل تتشوّق إلى شيء؟

أشتاق إلى بيوت تركتها فوق الجبل
وإلى ضحك دافئ وأغاني
لكن أكثر ما أشتاق إليه،

شجرة التين الصابرة عند مدخل بيتي
وعبق أوراقها الخضراء بين يديّ المرتعشتين المتلهفتين للخلود
يا لثقل الريح على الحجر

هي مدينة بين ثلاثة جدران، سقوف بيوتها براح النساء
وفي أزقتها اللاطمة تحمل النسوة الألوان إلى غرفة العروس
وتنحني رقاب الغرباء في كلّ عطفة وركن

كلّ حقل له يوم من عين فرسها
وكلّ عود رمّان يخرج من جلد الماء

موتاها خارج أسوارها ونخيلها يمدُّ الظلال
إلى مقاعد الشمس السبعة

في ليل الشتاء الطويل تبدأ
الأغنية دندنة ناعمة على طرف رداء محارب
ولا تنتهي حتى تصل صرخة الشهوة حناجر النساء

انحنِ أيّها المسافر عندما تعبر بوابتها
لا ترفع النظر إلى غزالاتها
ولا تدم الجلوس إلى بائعات القرفة في ساحتها


■ ■ ■


يا لثقل الآهة على الليل

ماذا لو صار للمدينة باب واحد؟
ماذا لو خطف الدليل كحل العروس؟
ماذا لو اقتربت الريح من السور ونثرت ما شاءت من رملٍ في الهواء؟
ماذا لو ضاقت الأمكنة بالظلال الهشّة وما يحمل هذا الصدر من أغانٍ؟
ماذا لو جاءت السكينة على ظهر جمل أو على كفّ ساحرة؟
ماذا على الليل أن يفعل كي يتخلّى الراهب عن خلوته؟
ماذا أعاد إلى عين الماء وجاهتها وإلى شفة الساقية حمرتها؟
ماذا يلوّح العاشق على كثيب الرمل من زفرات قبل أن تهدأ العاصفة؟
ماذا على صانع الأقفال أن يفعل كي يخفي عن الحراس رشفة الغياب؟
ماذا لو الصلوات أخذتها رعدة اللذة وخرجت إلى الشوارع عريانة؟
ماذ لو طال ليلٌ في حضرتها ولم تبح باسم حبيبها؟


■ ■ ■


يا لثقل الدقّاقة على الباب

الجملة الطويلة يتعب منها اللسان
لذلك اخترعوا الفاصلة، لتجعل بينك وبينها
مسافة وأرضًا، بركة ماء وضفدعًا

لو وضعت يدك على دقّاقة الباب
ستعرف تاريخ الباب، تاريخ الذين قيل لهم ولّوا
والذين قيل لهم ادخلوا

لو ملت بيدك قليلا جهة اليمين
سترى نسوة وأطفالاً، أردية من حرير
وصنادل من جلد بقر

ثمّ إذا ملت جهة اليسار
ستمتلئ أنفاسك بعبق أزهارٍ سقتها عيون البنات
وأزهار برّية من سفوح كثبان هزيلة

الآن يمكن أن تدقّ على باب الخلوة الكبرى


■ ■ ■


يا لثقل الستارة على المصباح

لولا النافذة لماتت الستارة
في بيتنا كان لها ظلفتان
وفي كلّ ظلفة ألواح مستطيلة

فراغ بين لوح ولوح
فراغ له وجه شجرة سرو
منها تعبر الفراشات بهو الغياب

وتدخل صيحات الديك وأفراس الفجر
في الليل تستيقظ الستارة ويستيقظ المصباح
تسيل الحكايات المقّدسة والحكايات الشبقة

في إحليل الليل كما يسيل رقيقاً هوى الماء في الساقية


■ ■ ■


يا لثقل البرق على السمكة

السمكة تجلس على أعلى الهضبة
فرحانة حيرانة سكرانة

نيران تلمع في شوارع المدينة
أصابع حلوى في فتارين ملّونة
ووجوه على شراشف من حرير

مَنْ كوّرَ شغف الأرض؟
منْ سدّدَ سهمه في عين الزرقة؟
منْ راودَ الزهرة على رجفة نويرتها؟

ستسقي الغيمة أصّيص القرنفل
ستتدلّى الستارة رقيقة ناعمة على كتف السيّدة

السمكة تقضم حزنها كما يقضم النور فم كهف قديم


■ ■ ■


يا لثقل القفزة على الجندب

عيدان الشعير المقصوصة تدمي أرجله
لقد قطعت السنابل الملأى
ونفخ الصبيُّ في عيدان القصب المحفورة لحنَه

نيران حطب أمام البيوت في أعلى الهضبة
ما يفعل جندب وحيد في حقلٍ فارغٍ؟!
الريح تثقل جناحيه ولا رفيق معه

كيف إذن يصل إلى فم الوادي
إلى حجارة كبيرة برؤوس ملفوفة كالحلزون

إلى بيت الرمل المسكوب رقيقًا ناعمًا
إلى شجرة العوسج المزينة بأمنيات العذارى والعاقرات؟

هو جندب لا أكثر بعينين فيروزيتين
وحنين كبيرٍ لصحراء عظيمة هناك!


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عراق وليبيا في المنفى

هذه القصائد مكتوبة من علاقة الشاعر عاشور الطويبي مع لوحاتٍ للفنان يحيى الشيخ (1945)، حيث وشائج عديدة، أهمها المنفى، تجمع بين الفنان العراقي والشاعر الليبي المقيم في النرويج. يقيم يحيى الشيخ أيضاً في النرويج منذ قرابة عقدين، وكان قد أقام في ليبيا عشر سنوات ورسم مجموعة كبيرة من اللوحات، بعد إقامته عدة أشهر في مدينة غدامس الليبية التاريخية التي يزيد عمرها عن ألف عام وتسمى لؤلؤة الصحراء.

المساهمون