اللغة بقوّة القانون

08 يونيو 2015
إل سيد (سطح كلية الفنون في ريو دي جانيرو)
+ الخط -

تُطالب جمعيّات اللغة العربية، اليوم، الدول والسلطات العامة بتدخُّل سياسي ـ قانوني لفَرض اللغة ودسْتَرَة العمل بها في فَضاءات الإدارة والقضاء والاقتصاد والأعمال. وتُدافع هذه الجمعيات الآن ـ كما دافع أنصار التعريب بُعيد استقلال الدول العربية الفتيَّة في خمسينيات القرن الماضي ـ عن ضرورة التدخُّل السلطوي للدولة باعتبارها الراعية الأولى للهويّة. أليست العربية مُقوّم الهوية الأوّل؟ أليست جزءاً لا يتجزأ من شرعيّة الدولة ذاتها؟

هذه المنافحة ـ على صدقها وشرعيتها ـ قد تخلق دون وعي ضرباً من الاقتران التلازمي بين السلطة واللغة، والقهر والعبارة. وهو ما يتنافى مع الطبيعة التلقائية للّغة وجوهرها العاطفي الذي يحمل الأفراد والجماعات على تعاطيها.

أليس من الأحرى أن تَقوم مؤسسات المجتمع المدني بكل ألوان الأنشطة الترغيبية حتى تُحبّب الناشئة في هذه اللغة وتكسر اقتراناتها اللاواعية والواعية بالعنف والقِدَم ورِمال الصحراء وقسوة البادية؟

وأولى الوسائل في ذلك سعي دؤوب لتبسيط قواعدها، ونزع هالات الأسطرة عن تراثها المُتقادم، وفكّ الارتباط بينها وبين البلاغة المهترئة، والعبارات العقيمة. فَليس في كلّ استخدامات العربية ـ ولا سيما المعاصرة ـ قعقعة سيوف عنترة، ولا تحمل كلّ صورها غلوّ أبي تمام ولا صولات المتنبي وفخاره.

العربية المعاصرة التي نودّ تحبيب الشباب فيها وترغيبهم في امتلاكها هي أداة تواصل ووسيط عمل يضمن إنتاج المعارف وتنوير العقول.

فَرض اللغة بقوة السلطان ـ وإنْ كان سلطان القانون ـ قد يؤدي إلى قرنها في المخيال الشبابي بالاستبداد وسطوة الدولة، وقد يربطها بمصالح فئة مُتنفّذة، ذات امتيازات اجتماعية، وقد يشدّها إلى تلاعبات المُتاجرين بالدّين.

ومن الوسائل أيضاً ـ في ثنايا هذا المشهد المُعقّد ـ أن يتولى المجتمع المدني تقريب الناشئة والآباء من الثروات الذهنية والفكرية التي تنطوي عليها اللغة، وتبيين ما فيها من مفاتيح النجاح في الوظائف والمناصب والأسواق. أن تُربط كلّها باليوم الراهن ـ لا بالأمس الغابر ـ في عالم مُعولم: اللغة فيه قوام الأعمال، وفنون التواصل فيه من سبل الهيمنة. أفلا يفعل النص الجيّد والعبارة الواضحة ما تعجز عن إجرائه سطوة القانون وغطرسة الدولة؟

ما يعزّز آفاق استعمال العربية المعاصرة ـ المُخفّفة من هياكلها المتقادمة ـ هو سماحة الفكر الذي برهن أنّ هذه اللغة أداة فعالة في التواصل الحر بين الأجيال والشعوب والمؤسسات، وضوح عباراتها وسهولة مضامينها تُيسّر النّفاذ إلى أسواق المال والأعمال. وذلك بعض ما يُحبّب الأجيال الجديدة في اللغة ويعين على اكتشافها. وإن شاءت الدولةُ بَعدها أن تُرَسِّمَ اختيارَ الشعب فَلها ذلك.

* باحث وأستاذ جامعي/ باريس

المساهمون