الشَّاعرُ المُشرَّدُ في ألفاظه

27 مايو 2019
(أمجد ناصر مع الروائي السوري حيدر حيدر)
+ الخط -

في تقديم كتاب (مملكة آدم) لاحظ الناقد صبحي حديدي أنّ شِعرَ أمجد ناصر "لا يُقرأ فقط، بل يُبصَرُ عِيانيًّا ومسرحيّا وسينمائيّا، بل ويُسمع أيضًا"، وهي ملاحظةٌ وجيهةٌ تُحيلُ إلى تلك المشهديّةِ التي تستشري في نصوص هذا الشاعر مانحةً إيّاها أُفُقًا حكائيًّا تَتَخلَّق فيه المعاني وتتأصَّلُ كياناتُها. فأنْ نقرأَ جملةً من شعر أمجد ناصر فذاك يعني أن نسمع حكايتَها ونرى معناها وهو يَبْرِي أطرافَه، ويَحْتَدُّ، ويَلْمَعُ، ويتأهّبُ، ويُقارِعُ كلَّ شيءٍ من حولنا: يُقارِع نِظاميةَ معنى العالَم.

إنّ قصيدةَ أمجد ناصر مُغَامِرةٌ، رَحَّالةٌ وحَكَّاءةٌ لمغامَرتِها في الآن ذاته، إنها قصيدتان في قصيدةٍ واحدةٍ: قصيدةٌ تَحكي مُغَامرةَ الشِّعر في اللغة صُوَرًا وأساليبَ وقصيدةٌ تُسمِعُنا صهيلَ تلك المغامرة فينا وفي الواقعِ رُؤى وقِيَمًا، وعلى مدار هاتين المغامرتيْن تتقاطع حكايةُ نَصِّ أمجد ناصر مع حكايته هو ذاتُه، وهما حكايتان تَحْضُران في دواوينه بغنائيّة ممزوجةٍ بهاجس ضرورةِ الاختلافِ في اللّغة وفي المكانِ.

فأمّا من جهة حكاية النصِّ الناصريِّ، فيبدو جليًّا أنّ بطلَها هو الشّْعْرُ نفسُه وهو يُغامِرُ بكيانِه في حربٍ مع موروث النَّظْمِ العربيِّ ومع وظائفه الجمالية والحضاريّة؛ ذلك أنه لمّا صرنا "نشقى لأنّ القصائد لا تُطفئُ الأسئلة، ونشقى لأنّ القصائد لا تبلغ المرحلة" (مديح لمقهى آخر)، وحيث يستمرّ سؤالُ "أيّ شِعْرٍ إذن سيُعيد لنا لسعةَ مياهِ الفجر في حقول الشمال"؟ (منذ جلعاد كان يصعد الجبل)، فلا بدّ للقصيدة إذن من أن تثورَ على موروث النَّظْم، وأن تعزف عن الاحتفاء بترهُّل البلاغة فيها، إذْ "كيف أكتب قصيدتي وأنا لا أملك إلاّ حطامَ الوصف؟" (رعاة العزلة)، ولا بدّ لها من أن تُعلِنَ رغبتَها في أن يصفو جسدُها اللغويُّ من الهَذرِ والثرثرة: "أريد أن أُنَظِّفَ الأوراقَ من هراء القصيدة وعبث التداعيات" (رعاة العزلة) خاصّة بعد أن تأكّد عَجْزُ بِنْيةِ القصيدة القديمة عن أنْ تمنحها القدرة على النهوض بوظيفتِها الحضاريّة وظلّت فيها "القوافي التي كَوْكَبت النّدى على رُكَبِ العذارى صامتة في الكتب" (مُرتقى الأنفاس).

وجرّاء ذلك كان وَكْدُ قصائد أمجد ناصر أن تبحثَ عن بلاغتِها الجديدةِ: بلاغةِ مادّةِ شكلها وبلاغةِ مادّةِ مضمونها، فإذا هي في دواوينه "لغتنا من الآن فصاعدًا، لنبدأها إذن دون استعارات أو تهويل، ولننظُرْ إلى الأشياء الحيّة بيننا، بكثرة من التبجيل" (مديح لمقهى آخر). وإذْ تفعل القصيدةُ النّاصريّةُ ذلك تكشف لقارئها عمّا لم يُسْعِفْه بصرُه برؤيته من كَدَرِ معيشِه، كأنْ يعرفَ مثلاً "كيف هلك هؤلاء الذين لم يكونوا على موعِدٍ مع الموت، لكنّهم وجدوا أنفسَهم في طريقه المرصَّعِ بالجماجم، فساقهم كقَدَرٍ عابثٍ أمامَه" (مملكة آدم).

وأمّا من جهة حكاية الشّاعر، فالمؤكَّدُ هو أنّ أمجد ناصر قد خَبَرَ المدائنَ وعَرَكَتْه أزمنتُها منذ رحيله الباكر عن الأردنّ، فلا تراه العينُ إلاّ "وهو يدخل في العواصم، وهو يخرج منها، ناحلاً ومُبْتلاًّ كريش الحَمَام، هائمًا كنَبِيٍّ، وحيدًا كذِئْبِ الفرزدق؟" (رعاة العزلة). فالمكانُ في قصيدته فمٌ جائعٌ يأكل الأحلامَ والأجسادَ واللغةَ بشراهةٍ، والشاعرُ فيه مشّاءٌ تذروه الرياحُ من حيرة النّعمان إلى مقاهي لندن، مرورًا بعَمّان وبيروت ونيقوسيا.

يمشي ويُسمعنا قولَه: "طاردتني قصيدة المدينة كنبوءة أشدّ شؤمًا من نبوءة أمّي عن نفسي التي لن تعرف الراحة مهما طال الزمان وبدّلت الأماكنُ وجوهَها" (حياة كسَرْدٍ متقطّع). وهي نبوءة جعلته "قليلاً ما يُقيم في الوضوحِ"، فإذا هو في أُفُقِ تأويلِها "مُشَرَّدٌ في الألفاظِ" (رعاة العزلة) تشريدًا هو من رحلة الشِّعْرِ ورحلةِ الشاعرِ معًا كَوْنُ إبداعٍ، وموكِبُ جَمالٍ، وقُوّةُ هشاشةِ الكائن الذي لا يملك من قَدَرِه إلاّ أنْ يحملَ جسدَه وفِكرَه ويُسافِرَ بهما باستمرارٍ.

دلالات
المساهمون